السبت، 29 مايو 2021

اشتغال الدلالي والفني ورهانات التحول في رواية اللص والكلاب.

 

تقدم رواية "اللص والكلاب " لنجيب محفوظ رؤية نقدية لواقع للمجتمع المصري  بعد ثورة الضباط الأحرار1952، تشكلت مكوناتها بين الدلالي والفني؛

فدلاليا، تدور أحداث الرواية حول شخصية سعيد مهران الذي وجد نفسه، بعد خروجه من السجن إثر وشاية عليش به إلى الشرطة، في مواجهة مع أصدقاء الأمس الذين اختزنوا بنوازعهم كل بذور الفساد والقيم المرفوضة ثقافيا واجتماعيا وأخلاقيا (الظلم، الغدر، الخيانة، النفاق، زواج السلطة والإعلام....).

وفي رحلة مواجهة تجليات الفساد هذه، ظل الفشل قَدَرَ سعيد يلازمه كالظل؛ بدءا من لحظة الخروج من السجن وتعقيبا بالجرائم وختما بالمطاردة ثم الاستسلام على نحو جعل الأحداث متداخلة ومتشعبة قوامها الصراع المتقد بنار الغضب والرغبة في الانتقام إلى أن انتهت بشكل تراجيدي مأساوي، تجسد خلالها كل أشكال التردي الأخلاقي والقيمي والاجتماعي.

وبالرغم من ثراء مضامين الرواية ودلالاتها فإنها التقت في بؤرة توارى خلفها تنازع  القيم ممثلة في البطل سعيد مهران الحامل لمبادئ إيديولوجية ومثالية عجز عن تحقيقها (بطل إشكالي) ومحور الفساد المتجسد في شخصيات رؤوف علوان ونبوية وعليش، صراع انتهى بانتصار الأخير ولو مؤقتا، نهاية غير متوقعة كسرت أفق انتظارنا مشكلة رسالة نقدية تحمل تطلعات الكاتب، مؤداها حاجة الفعل الثوري إلى التخطيط والتنظيم وتجنب العواطف وإعمال العقل وانخراط الجميع، محمولات دلالية تؤسس مداخل ثقافية وسياسية واستراتيجية للتحول والتغيير، بها يستشرف المستقبل عبر شخصية سناء التي أثثت فضاء الرواية من بدايتها إلى نهايتها حضورا بجسمها وغيابا باسمها وتمثلات البطل حولها؛ إنها النور الساطع الذي سيزيل عتمات التاريخ وسيصحح مسار الثورة وأخطاء الماضي واختيارات الأجيال السابقة.

وفنيا، استند الكاتب في تقديم مادة الرواية إلى بناء فني محكم توزعت فيه الأحداث وفق نظام الفصول، معتمدا على تبئير قائم على الرؤية من الخلف، فظهر السارد عليما بكل تفاصيل المحكي؛ أحداثا وشخصيات وقوى فاعلة، تحكم في ما يصدر عنها من أفعال ورؤى ومشاعر ونوازع فعكس ذلك حسه الفني والإبداعي، وحول هذه القوى تحلقت كل عناصر السرد كالبناء الدرامي الذي انتظمت فيه الأحداث لا وفق ترتيبها المنطقي ولكن لاعتبارات فنية تجريبية متصلة بالتحول  عبر استهلال دينامي ووسط تَقوّم بأحداث استخدم فيها قوة الذاكرة وحضور الوعي والاسترجاعات والاستباقات ونهاية مأساوية، مع حوار استبطن المواقف الثابتة من خلال الجنيدي ونور وطرزان والمتغيرة عبر ورؤوف ونبوية وعليش وكلاهما متصل بالبطل توافقا أو تعارضا، هذا التباين جعل الأحداث تتطور وتنمو دراميا باستمرار، وهو ما جعل سعيد مهران نواة لكل طاقات الصراع المغذية والمحركة لأحداث الرواية.

ولقد اعتمد الكاتب في تسريد الأحداث على لغة واضحة إيحائية رامزة بطاقة تعبيرية وفنية هائلة مستمدة من القدرة على مزج اللغة الفصيحة والعامية بما يعكس لاتجانس المجتمع المصري؛ فنوع الحقول الدلالية، معجميا، تبعا لاختلاف مرجعيات كل شخصية وانتمائها الطبقي وميولاتها الثقافية، ووظف بنية تلفظية حضر فيها ضمير المخاطب بقوة انسجاما مع الطابع الانفعالي للبطل وتموجات النفس الغاضبة والثائرة، وأسلوبيا استخدم السرد والوصف والحوار بنوعيه الداخلي والخارجي؛ فضمن تنوع زوايا النظر؛ بالحضور منتجا ومشاركا في بناء الأحداث ومتلقيا، وتعدد الأصوات، متنقلا  بين أزمنة متنوعة؛ فلكيا (الليل، الصيف،...)، وسرديا (استرجاعات واستباقات...)، ونفسيا خاصة الذاتي(الانتظار، تساؤلات...)، وأمكنة مختلفة ودالة اتخذت أحياء القاهرة تخوما لمسارات الأحداث وفضاءها؛ كالبيوت والنيل والسجن والعمارات والمصاعد والمستشفى والملهى والمقبرة... فعكست بتحركات الشخصيات؛ عموديا وأفقيا ودائريا ولولبيا، والانغلاق، والضيق، كل أشكال المعاناة والمشقة واللاحرية والتفاوت الطبقي....

إن رواية "اللص والكلاب " شكلت تحولا جديدا في مسار الكتابة الإبداعية للكاتب والرواية العربية إجمالا، استشرف بها وعيا جديدا بالقضايا المصرية والعربية في علاقتها بواقع الأمة السياسي والاجتماعي والثقافي المتردي وما رافق هذه المرحلة من الاستعمار والنكبات والنكسات وفشل الاختيارات السياسية والفساد، مستندا إلى مداخل فنية جديدة تجد صداها المرجعي في الواقعية والرمزية والنفسية، وذلك في قالب فني تجريبي جديد خرج عن المسار الكلاسيكي تمثل مفاهيم تيار الوعي كالتذكر، والأحلام، وأحلام اليقظة، وخطاب الغيب، والحلم، والوعي، واللاوعي ... بشكل لم يكن معهودا قبل ستينيات القرن الماضي، أكسبها ذلك نجاحا عظيما ولعل ما يمنحها هذا البعد هو جملة من المواصفات الكامنة في:

-  القيمة التاريخية: فالرواية استلهمت جملة من المعطيات التاريخية والاجتماعية والسياسية والإيديولوجية السائدة في المجتمع المصري والعربي إجمالا في النصف الثاني من القرن الماضي، ووثقتها وعرت ما سادها من التردي القيمي والأخلاقي وانتشار الفساد والفقر والظلم....

-  القيمة الأدبية والفنية: الرواية باختياراتها اللغوية والأسلوبية وبنائها الدرامي والدلالي أيقونة فنية عابرة لحدود الزمان والمكان والفردانية والطبقية، أعادت صياغة الواقع المصري والعربي صياغة فنية تخيلية مؤثرة؛ فصورته لكل القراء على اختلاف أقطارهم وأزمنتهم تصويرا فنيا إبداعيا جعلت صداه يتردد في عالمهم ووعيهم؛ فقصة سعيد قصة كل عربي وصوته لا يمثل نفسه وإنما رَجْعٌ وصدى لتمثلات ملايين العرب؛ ماضيا وحاضرا، في مصر وخارجها.

-  القيمة التوعوية: انخرطت الرواية في قضايا المجتمع بدل الموضوعات القديمة السائدة من قبل، ولامست الوعي الجمعي الثقافي والسياسي بقضايا الإنسان العربي، ورامت إعادة تشكيله عبر بث مشاعر الإيمان بأن أزمة المجتمع العربي لن تجد الحلول في اختيارات سعيد؛ ففعل التغيير لا يكون بالانتقام والعاطفة والانفعال وادعاء الثقافة ولكن يتطلب تجاوز الفردانية والطبقية وحضور العقل والتنظيم والتخطيط والإرادة الجماعية والقيم العليا...

ولئن نجحت الرواية في تشخيص الواقع العربي ومشاكله وأزماته وتناقضاته؛ اجتماعيا وأخلاقيا وثقافيا وسياسيا وإيديولوجيا وتصويره فنيا وحددت معيقات وعي الإنسان العربي بالعالم والوجود فإن وصفتها العلاجية تطرح بما استبطنت من الأسئلة أكثر من الأجوبة المعلنة والمضمرة، ولعل أهمها أسئلة التحول ورهانات التغيير.

المصادر:

رواية اللص والكلاب، نجيب محفوظ، دار الشروق، 1998.

الجمعة، 27 ديسمبر 2019

في ذكرى أربعينية الشاعر أمجد ناصر،
الشعراء لا يموتون !
بقلم: السعيد رشدي
        لا يموت الشعراء حتى وإن تركوا الحياة بأجسادهم، فأرواحهم تنبعث من قصائدهم مع كل قراءة، تتجدد حياتهم في رحلة وجودية مسارها عدم وحياة فموت ثم انبعاث أدبي، لم يمت مالك بن الريب ولا محمد الصغير أولاد أحمد أو أمجد ناصر...؛ لأنهم جميعا غادروا بذواتهم البيولوجية لا الشعرية، وتركوا أسماءهم بين الأسامي خالدة؛ شعرا غزيرا، ورؤى وجودية مختلفة، وتشكيلات فنية تسبر مجهول الحياة والموت والكون واللغة بحثا عن معان تصدح بالأسئلة، والشعر سؤال. وفي عرض ذلك، اتخذ الموت تجليات متعددة؛ وكان معبرا لمزيد من الوعي بأسرار الحياة، وكيف لا؟ والموت آخر المعاني ! .  
           إن القارئ ليحار، وهو يتابع تجربة الموت عند الشعراء لحظة لحظة؛ بما يبثون في أشعارهم من أوصافها القائمة على المعايشة ومشاعرهم الجارية على المجاهرة، فيغوون القارئ، والشعر غواية، يقذفونه في أتونها قذفا، فهذا مالك بن الريب يرثي نفسه لحظات قبل الموت؛ ويشيعها في مسارات شعرية جديدة وجديرة بالتأمل، قوامها شعرية الموت والاحتضار والجنازة؛ مسارات لم يسبق إليها أحد من الشعراء في يائيته المعروفة[1] :
-      ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً **  بوادي الغضَى أُزجي الِقلاصَ النواجيا
فقال:
-      تذكّرتُ مَنْ يبكي عليَّ فلم أجدْ***سوى السيفِ والرمح الرُّدينيِّ باكيا
-      فيا صاحبَيْ رحلي دنا الموتُ فانزِلا***برابيةٍ إنّي مقيمٌ لياليا
-      أقيما عليَّ اليوم أو بعضَ ليلةٍ***ولا تُعجلاني قد تَبيَّن شانِيا
-      وقوما إذا ما استلَّ روحي فهيِّئا***لِيَ السِّدْرَ والأكفانَ عند فَنائيا
-      وخُطَّا بأطراف الأسنّة مضجَعي***ورُدّا على عينيَّ فَضْلَ رِدائيا
-      خذاني فجرّاني بثوبي إليكما***فقد كنتُ قبل اليوم صَعْباً قِياديا
ولئن كان مالك بن الريب أول من جسّر العلاقة بين الحياة والموت شعرا، وجعل القصيدة نتاج هذه المفارقة في الثقافة العربية؛ متأملا وساردا وواصفا؛ فإن تجربته الشعرية عكست التشكيل الفني لصورة الموت في الشعر القديم، ودل خطاب الوصية فيها على الاستسلام والرضا موقنا بالنهاية المحتومة. بالمقابل، فإن تجربة شعراء الحداثة كانت حدثا مقاوما؛ فها هو الشاعر التونسي محمد الصغير أولاد أحمد يختار ما يناسبه في الموت وزمنه وطقوسه وتجربته من غير استسلام، ضمّنها رؤيا تختزل علاقته بالمجتمع والسلطة في التمرد والمقاومة؛ فقال في "وصيته"[2]:
-      شبه متيقّن كنت.
-      أمّا الآن : فعلى يقينِ مالحِ من أنّني سأموتُ
-      ميتةَ غامضةً
-      في الصّيف
-      وتحديدا :
-      أثناء النّصفِ الثالثِ من شهر غُشْتْ
-      أحبّذهُ زوجيّا، باسماً، ذلك اليوم.
ويظهر أن الشاعر أولاد أحمد اختار لموته ما يناسبه صيغة فأرادها أنثى تفاؤلا، وزمنا صيفيا، وأيقن من معايشتها يقين الشعراء والفلاسفة، لكنها غامضة؛ والغموض في حضرة اللغة وأنبياء الشعر والرؤيا ملغز؛ الشعراء لا يموتون في مملكتهم، واللغة سابقة الوجود وفاعلة فيه بالخلق والوصف والكشف؛ ولأنها الملاذ استعصم الشاعر بها واحتل كل الزمن؛ ماضيا بـ"كنت" وحاضرا بـ"الآن" ومستقبلا بالسين، موقنا بعودة الجسد لملكوت الصمت وبقاء الروح في مملكة الكلام تنبعث منها كطائر الفينيق، لذلك توج نفسه عريسا أنيقا يوزع ابتساماته على الضيوف والموت منهم منتشيا بالانتصار؛ فذات الشاعر لا ينال الموت منها إلا الجسد؛  فقال:
-      حليق الذّقن – مُهذّبَ الأظافر – أنيقًا بربطة عنق
-      خضراء. وحذاء أسود لمّاع –
-      وأشرعُ – للتوّ – في استقبال ملك الملوك، وفي
-      توديع ما علق بالذاكرة من ملابس النّصفٍ
-      الأسفل للدّنيا :
يعلم الشاعر أنه سيتحمل بمعية كل من حضر عنت الجنازة ومشقة الدفن تفاؤلا بالمصير؛ فللاحتضار طقوس وللجنازة أيضا، والجو قائظ وحار صيفا، ليعلن عندئذ إرادة الموت المشاع، جسد يكون ملكا عاما ومنتجا في صمت، بلغة اقتصاد السوق، يناله تجار الدين الشامتون وبائعو الصكوك الشعبويون، والجزارون المتكالبون على الغنائم، والمستهلكون الوصوليون تهكما وسخرية، يقول:
-      يمكنني الاعتقاد أنّ خمسين درجة، تحت الظلّ،
-      عذابٌ يسهلُ تحمُلهُ طيلة صلاةِ الجنازةِ ومراسم الدّفن.
-      أريده موتا مشاعا
-      موتا عموميا..كما يقال
-      موتا منتجا..بلغة اقتصاد السوق
-      موتا يدعّم أواصر الأخوّة، والتعاون المتبادل،
-      في كنف الانسجام التامّ والثقة المطلقة، بيني
-      وبين التراب الذي جئت منه لأعود إليه.
صار لقاء الشاعر بالموت مختلفا يؤسس لمركزية الذات وثقافة الاختيار؛ فكسر أفق الانتظار، وكان بطلا وعريسا مقبلا على الحياة؛ لذلك لم يستسلم بل استسهل محنة اللقاء، متوقعا البعث ومنتشيا بالانتصار.
لقد استمد الموت طينته عند أولاد أحمد من طبيعة علاقته بالسلطة السياسية والثقافية المستبدة بكل شيء في بلاده تونس؛ فتراءى له ملكا للملوك؛ رؤساء بلاده، فانتصر وتهكم...، ولم يتخيله أسدا ذا مخالب كما تراءى للهذلي، أو صقرا أسطوريا مع السياب، فالموت لدى شعراء الحداثة هو ساحة حرب ومقاومة، وتجربتها نتيجة لانفعالات ذواتهم وتحولات هذه الانفعالات الفنية تتجسد بطاقة تستمد من البواعث النفسية القائمة على الانخراط في قضايا الوطن من أجل صناعة التغيير وقيادة التحول.
 ويكشف الشاعر الأردني أمجد ناصر[3]، عن رؤيا شعرية وجودية مختلفة عن تجربة أولاد أحمد؛ فقد غادر الشاعر عالم القراء، وتأمل الموت تأملا تراجيديا، ورثى نفسه في قصيدته الأخيرة "عدو شخصي" قبل أن يرثيه الآخرون من غير نزوع للتودد أو طلب المصالحة، محولا هذا اللقاء الوجودي إلى حلبة للمقاومة، وجاء انسياب المعنى فيها على مجموعة من الثنائيات المختلفة؛ كالحركة والسكون، والإثبات والنفي، والخير والشر، والصداقة والعداء، والحياة والموت، والأنا والآخر، والفرد والجماعة، يقول في مطلع مرثيته[4].
-      عدو شخصي
-      ليس لي أعداء شخصيون
-     لدي أصدقاء أسوأ من الأعداء
-    ولكنهم ليسوا أعدائي الشخصيين.
يستهل أمجد ناصر مرثيته في لحظة تأمل داخلي ويعلن الموت عدوا إيذانا بالمواجهة الدالة على الرفض وعدم الاستسلام على عادة شعراء الحداثة، موظفا "ليس" قرينة النفي والإثبات المجردة من الزمن، فمنح نفسه مقاما منصفا، متوجا مسار الرفض المفتوح في كل مساحات نصوصه "مديح لمقهى آخر"و"منذ جلعاد كان يصعد الجبل"و"حياة كسرد متقطع" ...، بفتح خط مواجهة مع عدو من صنف آخر، لكنه شخصي هذه المرة، مقبل على الفتك به، والجنوح لـ"ليس" مرتين، على جمادها ونفيها للزمن، مكاشفة لغوية وشعرية دالة على ما بات يشغل الشاعر من الوجع والقلق، إنه وجع الموت والمصير؛ اللغز المحير. واستشعار اقتراب اللحظة الأخيرة شحذ في نفسه دفقة شعورية ممتدة أسقطت قرائن الزمن والضمائم؛ رافضا وعاتبا.

ويسترسل؛ فيقول:
-      هناك نجمٌ لا يزفُّ لي خبراً جيداً،

-  وليلٌ مسكون بنوايا لا أعرفها.

-  أمرُّ بشارعٍ مريبٍ وأرى عيناً تلمعُ

-  وأيد تتحسّس معدناً بارداً،

-  لكن هؤلاء ليسوا أعداء شخصيين،
 لقد دعا الشاعر نفسه للوقوف ليلا على ركح الحياة في حضرة الشعر ومملكته مشخصا أحداث اللقاء وساردا، وللشعر طقوس؛ فرأى هنالك نجما بعيدا صامتا نكرة احتل مساحة السماء، لا ينجِّم بشيء ولا يزف خبرا؛ فانكسر انكسارا، والنجوم في دنيا الشعراء حمالة أخبار، وفي مملكة الأنبياء استشعار، ألم تكن ليوسف الصديق السند في الرؤيا والمَعبر إلى اللقاء؟ حضر الشاعر إلى الكون الشعري يبث شكواه لأشياءه متوجعا في ليل مظلم ومعتم، مسكون بنوايا غير سارة مضطربة، لا يتحسسها إلا هو بقصيدة خارقة نثر فيها المعنى بالسرد والوصف والانزياحات الموحية والإيقاعات المنكسرة، محاورا ومناجيا بمونولوغ داخلي قوامه التوظيف الاستعاري؛ نجم صامت وليل ساكن وشارع مريب، وتوظيف الشاعر لذاته المعدنية المستعارة والممتدة في الفضاء كان حدثا مقاوما يشعر بالرغبة في المواجهة وعدم الاستسلام؛ وعلى ذلك مسرحَ الحدثَ، أما المكان فكانت قرينته شارعا مجهولا ومدينة تعلن اغتراب الذات في كل شيء، تلمع فيه عين مودّعة تدمع لوداعِ معدن بارد يأبى الانصهار والزوال والاستسلام، يقول:       
-    أيها الشيءُ القاتمُ الذي أخذ أمي
-    ما أنت؟
-     ما مشكلتك معي
-    لا تخيفني رسائلك الغادرة ولكن لا تتركها في ليل لا أستطيع فيه تلمس موضع يدي وراء سدوله.
-     إن كنت رجلاً اخرج إليَّ من مكمنك حيث تُغذّي مخالبك البنفسجية بسُكَّرٍ مسروقٍ من مؤونة الضيوف..
-  تعال نلتقي وجهاً لوجهٍ على أيِّ حافّةٍ، أو في أيِّ جبَّانة تريد لسوف ألقنك مواثيق الرجال .
      ينادي الشاعر الموت في موقف درامي، ويدعوه للمواجهة على حلبة اللغة، ولإسقاط معنوياته تجاهله بداية، وجعل صورته مستمدة من ذوات المخالب والأظفار ممزوجة بأوصاف شبيهة بالإنسان على نحو أسطوري وعلى طريقة الاستعارة المكنية تعقيبا، واسترجع تجربة الهذلي تناصا، غير أن صورة موت ناصر كانت أكثر مكرا وتقززا؛ غذاءه ليس فريسة على العادة، بل سكّرا مسروقا من مؤونة الضيوف، يالها من صورة مقرفة ومرفوضة تنكسر عليها التوقعات، وتمجها الذائقة الثقافية العربية المحبة لكرم الضيافة! حيوان أسطوري طفيلي سارق يمنع المضيف من إكرام الضيف !
       لم يستطع الشاعر الوفاء بالوعيد، لكنه لم يستسلم للعدو الشخصي وقاومه حتى اللحظة الأخيرة، وأنزل الموت منزلة القابل للمواجهة، وما لبث جسده أن غادر إلى الصمت حتى انبعثت روحه من تراب كلام قصيدته وماءها وهواءها منتصرا، هكذا حال الشعراء، لا يموتون إلا بأجسادهم، فهو سيحيى[5] على مدلول اسمه كما تنبأ، يقول:
-      أمي وأصدقائي الذين غدرت بهم يسمونني يحيى
-      وهذا إن كنت لا تعلم اسم نبي صحراوي عمّد بالماء من يشفي الأعمى والأبرص وقام من تحت تراب الموت في اليوم الثالث.
-      تعال إذن إلى حلبة الآلهة المطوقة بالملاحم والأنساب.
لقد أعنق الشاعر أمجد ناصر لهواه بعنفوان وعدم استسلام؛ فواجه الموت باللغة ليحيا فيها، وبث في شعره معزوفة الحياة مقرونة بتجربة الموت فهما معا وجهان لشيء واحد، وتم له ذلك بإبدال شعري حديث منثور وبقافية مرسلة خارقة للبنى، حاملا إياه على محمل الأنساب والتاريخ في اتصال بالهوية، مستأنسا بالصراع في حضرة الأنبياء والشعراء والآلهة، منتصرا على الموت وموقنا بالبعث. هذه الرؤى الإبداعية نجد تردداتها عند كل شعراء الحداثة كالسياب، ومحمود درويش، وأولاد أحمد وغيرهم، شعراء جعلوا معايشة هذه التجربة الإنسانية تخيلا أو حقيقة مصدرا من مصادر الإلهام الشعري، ومدخلا للوعي أكثر بالحياة في قضاياها وامتداداتها اللانهائية، مترجمين هويتهم القائمة على إرادة المقاومة ورفض الواقع والتغيير، وفاتحين الباب أمام شعريات جديدة متصلة رأسا بالموت.
           إن تجربة الموت لدى الشعراء تستحق التأمل؛ فهي تجربة على غير قياس أو شبه، فريدة بطقوسها ورسائلها، تحملها اللغة الشعرية؛ ذلك الكون الذي مازال مجهوله ممتدا، والشاعر من دعا قراءه إلى اكتشاف ذلك المجهول في حياته وفي احتضاره وموته وجنازته، وكفى قراءه وأصدقاءه مؤونة التفكير في غير ذلك داعيا إلى التأمل في مجهول الكون والبيان؛ فهو أمير الكلام، حياته وموته قصيدة، وهما معا وجهان للغة واحدة هي لغة الشعر.
المصادر والمراجع
1.   ديوان مالك بن الريب، تحقيق نوري حمودي القيسي، ص 88-90-91-92.
2.   محمد الصغير أولاد أحمد، الوصية، موقع صحيفة الحدث الفلسطيني، 22دجنبر 2019.
3.   أمجد ناصر، قصيدة عدو شخصي، ضفة ثالثة، 30 يونيو 2018.



[1]- ديوان مالك بن الريب، تحقيق نوري حمودي القيسي، ص 88-90-91-92، بتصرف.
[2]- محمد الصغير أولاد أحمد، الوصية، موقع صحيفة الحدث الفلسطيني، 22دجنبر 2019.
 - توفي الشاعر يوم 31 أكتوبر 2019.[3]
 [4]- أمجد ناصر، قصيدة عدو شخصي، ضفة ثالثة، 30 يونيو 2018.
[5] - اسم الشاعر كاملا: يحيى النميري النعيمات.

الأربعاء، 27 فبراير 2019

التعليق الرياضي، الوجه الآخر للعنف!


 التعليق الرياضي، الوجه الآخر للعنف!
بقلم: السعيد رشدي
لم تعد مشاهد العنف داخل الملاعب تعكس الصورة البانورامية التي كانت تنسجها المخيلة حول البساط الأخضر والمدرجات الملونة بألوان الطيف، الحالمة بالفرجة والاستمتاع بسحر كرة القدم كما كان الحال عليه في الماضي؛ فكثيرة هي الأحداث التي جعلت لحظات الملاعب سوداء منكسرة على أهلها من الرياضيين والمحبين والمشجعين، فتتحول أحلامهم إلى شظايا متناثرة تحرق المدرجات، وتجعل نص المتعة التي تخطها الأقدام بمداد الكرة على أوراق العشب بلا قارئ، والقارئ وحده من يمنح النص وجوده.
 والمباراة نص يجهض معناه العنف فيصير بلا معنى ولا جدوى؛ وما العنف إلا سلوك إنساني خالص وجانب من ذاكرتنا البعيدة، وهذا ما علمتنا الكتب السماوية والدراسات التاريخية؛ إنه ما تبقى من الميراث، قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" (البقرة: 30)، وأسوأه كان بعد العقل والاستخلاف، بما لا يجعله شذوذا، بل سلوكا فطريا متأصلا من الطبيعة، وهي إشارة كولن ولسون: " لقد علمنا عالم الحيوان أن الجريمة ليست إلا جانبا من ميراثنا الحيواني"[1].
يُخرج العنف الذات الإنسانية على الدوام من حدودها الطبيعية والأخلاقية متحديا ومتجاوزا، فتخرج اللغة لحظة إلباسها لبوس الأفكار وتعبر بمعان لا تنضبط لقوانينها، إنها جزء منها وإن من خارجها؛ يا لغرابة اللغة! إنه "المتبقي" بتعبير جون جاك لوسيركل القادر على الانفلات بمحموله من الألعاب اللغوية والاستعارات والإضمار والحذف... لغاية الخرق؛ فيجعل العنف متعينا في الكلام بالفعل تعينه في المتكلم بالقوة، ومبلغ تقدير العرب لـ"الكلام"  إطلاقه على "الملفوظ"؛ وعقد المعنى النووي فيه على تقاليبه وتصاريفه؛ فاجتمعت عليه وأدارته على معنى "الجرح" من باب التصاقب؛ فمنه الملاكمة، واللكمة، والكلم، والمكلوم...، يقول لسان الدين بن الخطيب:
ومن بين مكلوم بحد سيوفها --- تسيل على الأعقاب منه جراحه
ولما كانت المعاني معقودة في نواصي الحروف، صارت اللغة أوقع في النفس من السيوف، فقال الشاعر: 
جِراحات السِّنانِ لها التِئامٌ --- ولا يلتامُ ما جَرَحَ اللسانُ
ومن ذلك ما كان بالتورية والتعريض والمدح المراد به الذم، ومنه قول الحطيئة في الزبرقان:  
دع المكارم لا ترحل لبغيتها--- واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
 فوجه اللغة في البيت المدح وقفاه الهجاء؛ وهو لعب لغوي ظاهره الجد وباطنه اللعب؛ وعليه تكون الكتب بمادتها اللغوية أصدقَ إنباء من السيف، على غير مذهب أبي تمام وتأويل الشراح في قوله:
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ--- في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ
ولا يبدو أن الشاعر لم يستشعر مذهبه في القول، إلا أن سياق المدح وإكبار الموقف أخذ منه مأخذه؛ فقدم السيف على اللغة، والخليل يقول: الشعراء أمراء الكلام.
 يطفو "المتبقي" فوق اللغة خاصة لغة المعلق الرياضي على مقابلات كرة القدم في النقل التلفزي من دون أن يلقى له بالا أو يثير اهتماما، ليشكل نسقا لغويا موازيا؛ يتمرد فيعكر صفو المقصود وحسن النوايا وسلامة الطوية، إنه العقل الباطن عند لاكان[2]، التوظيف الاستعاري فيه مدخل للتأويل ولترجيح محتملات المعاني بما فيه من البأس والشدة، وما له من القدرة على المناورة والتمرد.
ولئن كانت الاستعارة مدار الأمر في خطاب التعليق الرياضي؛ فإن ما يبرر ذلك هو صناعة الفرجة وإمتاع المشاهد؛ فيلتقي بيان اللغة بسحر الكرة، وإن من البيان لسحرا، والرهان استمالة المتفرجين وتحقيق المشاهدات القادرة على ذر المزيد من الأموال والأرباح للمؤسسات الإعلامية والشركات واللاعبين وأرباب المقاهي والفنادق...، وهنا وجه الاستعارات التي نحيا بها، بتعبير لايكوف.
 وأثناء ذلك، يتخذ خطاب التعليق الرياضي في القنوات الرياضية منحى استعاريا حربيا، ينزّله الجمهور تنزيلا عنيفا، بما يوجه لمأسسة العنف ونشر ثقافته؛ بلغة الإثارة والثأر والجرح... فيذكرنا بصخب الماضي الإنساني الأليم، صخب الكولوسيوم الروماني؛ وصراع العبيد والأحرار والعرض على السياف (Gladiateur) وأنياب الحيوان، تحت تصفيق الجماهير بروح سادية متعطشة للموت ورؤية الدماء، إنه جزء من ذاكرتنا القريبة، وجانب من ماضينا الحقير المستعاض عنه، أوروبيا، بثقافة الفرجة الرياضية والفنية أملا في بعث الروح الإنسانية وقيم التسامح والمحبة، وتجاوز مظاهر العنف والموت ورواسب التاريخ.
ههنا سجل لغوي شاهد على عنف لغة التعليق على مباريات كرة القدم مصدره القنوات التلفزية العربية، سجل يتوزع إلى ثلاثة أنساق كبرى كما صنفها الأستاذ هشام فتح في مقال من مقالاته، وهو النسق العسكري (المعسكر، المعترك، الدفاع، رهيب، رعب، الخوف، الهجوم، الكتيبة، الظفر، الأسلحة...)، والنسق الطبيعي( مواجهة ساخنة، نار نار، الأسود، القرش، زلزال، الطوفان البشري...) والنسق الأخلاقي (الكبرياء، الضيوف، الساحرة المستديرة، أكرم وفادته، الشياطين...)[3]، تتضافر هذه الأنساق لتؤسس خطابا استعاريا قوامه الحرب والعنف والقتال والموت والدمار، معجم الكولوسيوم بلا جدال، والمبالغة فيه للتأثير في المشاهد واستمالته، ديدنه اللعب اللغوي والاستعارة الترغيبية والترهيبية، والإقبال والإعراض، والحث والتنبيه والتحذير،... فيُحمَل بقوة المسموع والمرئي ليعيش صخب الصراع، مستركزا ثنائية النصر والهزيمة والحياة والموت، شعاره البقاء للأقوى؛ بصيغة فنية رياضية لا تخلو من محاججة، تعيد تشكيل الواقع ورسم الأشياء، وتوزع الأدوار والوظائف حسب الحاجة والظروف، لغاية النقد والإقناع بوجاهة الرأي وصواب الموقف.
 يستطيع المعلق الرياضي إنشاء خطاب استعاري كولوسيومي، يتمكن منه بلغة واصفة تخاطب الخيال وتعطل العقل، لغة غريبة تمزج بين الواقعية والمبالغة في الوصف بالاستعارة، فتتأسس الفرجة بلغة العنف وثقافته؛ يُحمَل بها المشاهد، سيكولوجيا، على تبني سلوكات تمتح وجودها ومادتها منه، فينعكس ذلك عليه وعلى خطاب الشارع لتكرسه البيئة؛ فمعجمه أفعال وصفات إنجازية تداولية "actes de langage" تؤثر في سلوك الجمهور، وتؤسس الاختلاف في طقوس الفرجة والنقل التلفزي للمباريات الكروية بين دول شمال البحر الأبيض المتوسط وجنوبه وشرق آسيا وغربها، طقوس تؤثر سلبا أو إيجابا، تعضدها عوامل أخرى اجتماعية واقتصادية كالفقر والمخدرات والبطالة والجهل...، والفرق واضح بين مشجعي دول الشمال ومشجعينا، نحن سكان الجنوب، وبين بلدان شرق آسيا وغربها في دورة كأس العالم الأخيرة بروسيا.
ولا ينكر أحد ما يكون للمعلق الرياضي، عادة، من قدرات خطابية مستمدة من اللعب اللغوي بالاستعارة والكناية والحذف والإضمار...، بالمقابل تتأكد مسؤولية الإعلام الرياضي في تكوين هذا الخطاب ونتائجه، خاصة وأن الاستعارة الرياضية الحربية تستطيع الانفلات من سيطرة المتكلم ومقاصده وأعراف اللغة وقوانينها، لتتحول إلى "متبق" مارد قادر على الخرق والهدم، لتكون من الاستعارات القاتلة بدل التي نحيا بها.
ولسنا نميل للقول إن الثقافة الرياضية العربية عنيفة بالمنشأ والبيئة؛ فالإسلام صحح مظاهر العنف ومشتقاته؛ من حقد وجهل وتنابز... المتوارثة عن الجاهلية تصحيحا مؤسِّسا لا رجعة فيه، والثقافة جسدت هذا التصحيح منذ مسار تاريخي طويل، والعودة إليه نكوص ثقافي وحضاري، وعليه فإن الدعوة إلى بحث الإبدالات الممكنة للاستعارة الحربية في التعليق الرياضي الإعلامي العربي أمر مطروح، وشرط إمكانه يبدأ من الوعي بأضراره وتوجيه البحث إليه داخل مختبرات البحث اللساني والإعلامي في مراكز البحث والجامعات، وتجريب  مدخل المقاربة بالنوع  لكسر الهيمنة الذكورية، وينتهي بخلق آليات التواصل بين مؤسسات البحث والإعلام وتبني النتائج.   
المصادر:
-      القرآن الكريم
-         جون جاك  لوسيركل ، عنف اللغة، ترجمة محمد بدوي، المركز الثقافي العربي، ط1، 2005.
-      كولن ولسن، التاريخ الإجرامي للجنس البشري، سيكولوجيا العنف، ترجمة رفعت السيد علي، إصدارات حور، ط1، 2001.
-      مدونة الأستاذ هشام فتح: madakhiil.blogspot.com  
     
هذا الموضوع منشور بالموقع الإعلامي كواليس اليوم، تحت الرابط:       
http://www.cawalisse.com/permalink/28987.html