الجمعة، 2 يناير 2015

غريب القرآن، جولة مع القراء في كتاب: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة.

إعداد:  رشدي السعيد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على خير الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم.
وبعد؛
        نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين،  موافق لسنن العرب في كلامهم؛ صريحه ومجمله، حقيقته ومجازه. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم المفسر الأول لما أُجمل منه، والمقيد لما أطلق، والمفصل لما أوجز. ولما كان الموت قضاءَ الله في خلقه، أخذ الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جواره، فانشغل المسلمون بعده بالقرآن الكريم وشؤون الدين والحياة، غير أن تباعد الزمن وظهور قضايا جديدة جعل تلقي لغة ومعاني القرآن دون مستوى الفهم السائد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لذلك سارع الصحابة إلى الاجتهاد في تفسير ما غَرَب عنهم، وأول ما سجل من ذلك مسائلُ نافع بن الأزرق التي دارت حول معاني بعض ألفاظ القرآن الكريم، جاء في مسائل نافع بن الأزرق[1]: «فكان ابن عباس رضي الله عنه يجيب ونافع يسأل؛ وهل تعرف العرب ذلك، ويجيب ابن عباس أما سمعت قول الشاعر[...] فيذكر الشاعر». فكان ذلك أولى بدايات تفسير أغربة القرآن.
ومن الكتب المشهورة بموضوع الغريب في القرآن نجد كتاب "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة.
 يعد هذا الكتاب تتمة لكتاب آخر موسوم بـ "تأويل مشكل القرآن"، وإذا كانت كلمة "الغريب" تختلف في معناها عن "المشكل" فإن عدم اتفاق كتاب "تفسير غريب القرآن"  في الموضوع والمنهج مع "تأويل مشكل القرآن" جعلت الكاتب يعزل "الغريب"، فكان ذلك، رحمه الله، من سننه في التأليف؛ إذ كان يظهر منهجية واضحة في تصنيف المواضيع والإيجاز فيها تخفيفا على القارئ، وتجنبا للملل.
وكتاب "تفسير غريب القرآن" من أوثق كتب تفسير الغريب خصصه المؤلف لتفسير أغربة القرآن؛ أي تلك المفردات التي تباعد عهد تداولها عن ألسنة الناس لأسباب زمنية أو مكانية أو لاختلاف القراءات وغيرها، وقد صنفه المؤلف على ترتيب سور القرآن الكريم، واعتمد فيه على كتب المفسرين وأصحاب اللغة، من دون إسهاب، ومن دون ذكر الإسناد، إلخ.
حقق الكتاب الأستاذ أحمد صقر رحمه الله سنة 1958، وفيها توفي المحقق رحمه الله، ونشر في دار الكتب العلمية ببيروت لبنان بعد هذا التاريخ في طبعات مختلفة آخرها سنة 1978، وهي المعتمدة في هذه الجولة، ويقع في جزء واحد من 588 صفحة، مغلف بورق مقوى من اللون الأحمر الداكن.
 3 قراءة في العنوان
مفهوم التفسير:
 لغة: يقول الألوسي[2]: «التفسير تفعيل من الفسر وهو لغة البيان والكشف ».
واصطلاحا: ويقول كذلك: «علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب».
مفهوم الغريب:
 ذكر ابن منظور في اللسان أن غَرَبَ "من الغروب، أي غيوب الشمس ..."والغَرْبُ الذهاب والتنحي عن الناس، وقد أَغْرَب عنا يغرُبُ غَرْبا ... وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتغريب الزاني سنة... والغَرْبةُ والغَرْبُ النوى والبُعد"[3]
فظهر من التعريفين أن التفسير منهج في الوصول إلى مراد الله من خلال كلامه، والغريب ينصرف إلى الألفاظ البعيدة العهد تداوليا بين زمن الوضع الأول وزمن آخر موال ظهرت فيه، فيحس سامعها في الزمن الموالي، نتيجة لتطور اللغة، بغربتها عن مسمعه، فيكون ذلك حائلا بينه وبين معناها. فكان لابد من شواهد شعرية تسترجع تلك الدلالة، لتكون دليلا عليها.
وتوالى اهتمام المفسرين بأغربة القرآن الكريم، وأفردوا لها تصانيف كثيرة، ومن أشهرها: تصنبف ابن قتيبة الموسوم ب : "تفسير غريب القرآن" .
4- موضوع الكتاب وتقسيماته:
أفرد المؤلف الكتاب لغريب القرآن من دون تأويل مشكله؛ لأنه أفرد لتأويل مشكله مؤلفا آخر. ويتضح تقسيم ابن قتيبة لكتابه، من قوله : " نفتتح كتابنا هذا بذكر أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، فنخبر بتأويلهما واشتقاقهما، ونتبع ذلك ألفاظاً كثر تردادها في الكتاب، لم نر بعض السور أولى بـها من بعض ثم نبتدئ في تفسير غريب القرآن"
فظهر أن تقسيمات الكتاب تمت كما يلي:
من ص 1 إلى 5: مقدمة المحقق والمؤلف.
من ص 6 إلى 20: اشتقاق أسماء الله وصفاته.
من ص 21 إلى 37: باب تأويل حروف وردت في الكتاب، ويقصد بالحروف الكلمات الأكثر ورودا في القرآن الكريم.
من ص 38 إلى نهاية الكتاب: خصص للغريب على ترتيب السور القرآنية.
 5 - منهج ابن قتيبة في كتاب تفسير غريب القرآن:
لم يكلفنا ابن قتيبة عناء البحث في منهجه المعتمد في تأليف الكتاب؛ فقد أورد في مقدمته غرضَه ومنهجَه فقال:" وغرضنا الذي امتثلناه في كتابنا هذا أن نختصر ونكمل، وأن نوضح ونجمل، وأن لا تستشهد على اللفظ المبتذل، ولا نكثر الدلالة على الحرف المستعمل، وألا نحشو كتابنا بالنحو وبالحديث والأسانيد. فإنا لو فعلنا ذلك في نقل الحديث، لاحتجنا إلى أن نأتي بتفسير السلف رحمة الله عليهم بعينه. ولو أتينا بتلك الألفاظ، كان كتابنا كسائر الكتب التي ألفها نقلة الحديث، ولو تكلفنا بعد اقتصاص اختلافهم، وتبيين معانيهم، وفتق جملهم بألفاظنا، وموضع الاختيار من ذلك الاختلاف، وإقامة الدلائل عليه، والإخبار عن العلة فيه؛ لأسهبنا في القول، وأطلنا الكتاب، وقطعنا منه طمع المتحفظ، وباعدناه من بغية المتأدب، وتكلفنا من نقل الحديث ما قد وقيناه وكفيناه". [4]
ومما لوحظ في منهجه في التفسير، تجنبه ما يلي:
- التوجيهات النحوية والقرائية في التفسير:
تجنب ابن قتيبة الغوص في الاختلافات النحوية والقراءات القرآنية في توجيه التفسير، وهذا راجع إلى تعمده اجتناب الغوص في التفصيلات، والأسانيد، غير أن المنهج السني ظهر في اختياراته.
- أساليبه في التفسير:
جنح ابن قتيبة إلى الإيجاز ما أمكن، ودرءا للتطويل كان كثير الإحالة على كتاب تأويل مشكل القرآن، وهو ما يجعل "تفسير غريب القرآن" تابعا له ومفتقرا إليه، كما اعتمد التفسير السياقي، وتجنب الاعتماد على الشرح بالترادف.
6- مصادر ومراجع الكتاب :
يقول ابن قتيبة في مراجع الكتاب:" وكتابنا هذا مستنبط من كتب المفسرين، وكتب أصحاب اللغة العالمين، لم نخرج فيه عن مذهبهم، ولا تكلفنا في شيء منه بآرائنا غير معانيهم، بعد اختيارنا في الحرف أولى الأقاويل في اللغة، وأشبهها بقصة الآية، ونبذنا منكر التأويل، ومنحول التفسير " [5]
والمتصفح للكتاب سيجد أن ابن قتيبة اعتمد على كتب التفسير ومن بينها:
أ - القرآن الكريم: ومن مثال تفسيره للكتاب بالقرآن استشهد بقول الله عز وجل في سورة البقرة : "ذلك الكتاب لا ريب فيه" الآية 2 .[6]
ب- الحديث النبوي: حديث :"فمن قضيت له بشيء، من حق أخيه، فلا يأخذه...[7]
ج - مصادر اللغة
 -المعاجم الشعرية :استشهد في شرحه اللعن ببيت الشماخ الوارد في ديوانه :
ذَعرْتُ به القطا ونَفَيت عنه     مقامَ الذئب كالرجل اللعين [8]
- كتب اللغة: روى عن إبراهيم النخعي والقول ورد في اللسان "كل شيء ليست له نفس سائلة لا ينجس الماء إذا سقط فيه".
د-التفاسير: اعتمد على العديد من التفاسير التي كانت قبله، والمعاصرة له؛ كتفسير أبي عبيدة، و تفسير الطبري، وغيرها.
7- قضايا وملاحظات في تفسير ابن قتيبة:
- اهتم ابن قتيبة كثيرا بتفسير أغربة القرآن بالقرآن في الدرجة الأولى، واستشهد ب 111 سورة و290 آية قرآنية، ثم فسر بالحديث النبوي، واستشهد ب 60 حديثا نبويا، واستشهد بالأقوال والأمثال المأثورة عن العرب فوصل عدد استشهاداته 51 استشهادا، واستشهد ب 111 بيتا شعريا لشعراء من الطبقات الثلاث، فيظهر من خلال هذه الإطلالة الإحصائية طبيعة وملامح الشخصية العلمية لابن قتيبة الموسوعية والممنهجة والمنسجمة مع توجهه الاعتقادي بصفته أحد أعلام أهل السنة والجماعة.
- لم يظهر على ابن قتيبة  النزوع إلى الاجتهاد العقلي؛ فلم يتوغل في تقاليب الكلمات ولا اشتقاقاتها، ولا مجازاتها، بل أخذ الاستشهادات على معانيها الظاهرة سيرا على نهج ابن عباس في مسائل نافع.
- جانب ابن قتيبة الصواب في بعض اجتهاداته، والتي لم يبنها على اشتقاق الكلمة؛ ومن ذلك تفسيره لقول الله تعالى في سورة الرعد الآية 4: [9] «وفي الأرض قطع متجاورات» «بقرى متجاورات» والصواب، حسب المحقق، أن يتركها على أصلها ولينصرف إلى تفسير التجاور كما فعل الطبري؛ حيث فسرها ب: "في الأرض قطع متقاربة بالجوار".
- لم يراع المؤلف أي ترتيب في القسمين الأولين؛ فقد وقف في القسم الأول على تفسير أسماء الله الحسنى من دون ترتيب وذكر في أولها: الرحمن، فالرحيم، فالسلام، فالقيوم، فالسبوح .. وفي القسم الثاني:  الجن والناس، فإبليس، فالشرك ..إلخ.
- ومن الملاحظات في التفسير كذلك  اعتماده على شعر وأقوال من غير معرفة قائلها مأخوذة من كتب اللغة، فرمى بمسؤولية ذلك على أصحاب اللغة؛  ومن أمثلتها كتب الأمثال [10]، علما أن اختلاف غرضي اللغويين والمفسرين يوجب اختلاف المنهجين؛ لأن اللغويين همهم هو الكلام الإنساني، أما المفسرون فَهَمُّهم هم الكلام الإلهي.
- ومن منهجه في الاستشهاد اعتماده على شعر ثلاث طبقات:
أ- الشعراء الجاهليون: كامرئ القيس، ولبيد، والأعشى...إلخ
ب- الشعراء المخضرمون: كالأخطل، والخنساء...
ت- والشعراء الأمويون: عروة بن أذينة الليثي، وذو الرمة..
ولم أجد استشهادات لشعراء من الطبقة الرابعة وهذا يبين ملمحا آخر في منهجه قوامه الاستشهاد بشعر القدامى، والأكثر قربا من زمن الوحي.
- ومن الملاحظات كذلك أن ابن قتيبة تعامل مع المفردات القرآنية في معناها الأساس ولم يشر إلى ما يمكن أن يكون متعالقا معها من المعاني بفعل السياق، ولبيان ذلك فسر ابن قتيبة الآية 67 من سورة المائدة "والله يعصمك من الناس" بقوله: «أي الله يمنعك منهم[11]،  وعصمة الله إنما منعه العبد من المعاصي، ويقال هذا طعام لا يعصم أي لا يمنع من الجوع»، أما الزمخشري في الكشاف فقد ربطها بالسياق الوارد في السنة النبوية فيقول في الكشاف أن العصمة من الناس يراد بها العصمة من القتل، قال:« فإن قلت أين ضمان العصمة وقد شُج في وجهه يوم أحد وكُسرت رباعيته صلوات الله عليه؟ قلت المراد أنه يعصمه من القتل»[12] .
- ظهر ابن قتيبة في منهجه في تفسير الغريب بكل خصائص المفسر السني الذي أخلص لمبادئ أهل السنة والجماعة؛ فتجنب الاجتهاد العقلي، وآثر النقل، غير أنه تساهل وتوسع في اعتماد الرواية الشعرية وأقوال العرب؛ فأخذ القول عن مجهول تحت مسمى "قول قائل"، و"قال الشاعر"، وغيرها، فاتفق مع الزمخشري في هذا الإطار, وهذا وجه التأثر بمنهج اللغويين في تعاملهم مع اللغة خاصة الكوفيين الذي ينتمي إليهم بالنشأة .
هذا منهج ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ظهرت من خلاله شخصيته اللغوية والفقهية، كما ظهر من خلاله منهج أهل السنة والجماعة في تفسير الغريب، فكان ذلك سندا كبيرا لانتشار الكتاب ونجاحه  بصفته أهم كتب تفسير الغريب في العالم الإسلامي إلى اليوم.
المصادر والمراجع:
1- ابن قتيبة، تفسير غريب القرآن، تحقيق أحمد صقر، مطبعة دار الكتب العلمية يبروت، لبنان، 1978.
        2 - الزمخشري، الكشاف عن غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج1. تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي أحمد معوض، مكتبة العبيكان، 1998.
       3 - ابن منظور، لسان العرب، تحقيق عبد الله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي، دار المعارف – القاهرة.
    4 - مسائل نافع بن الأزرق عن عبد الله بن عباس، تحقيق محمد أحمد الدالي، مطبعة الجفان والجابي، قبرص، ط: 1،1993.
     5- الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، نشر وتصحيح محمود شكري الألوسي البغدادي، دار إحياء التراث العربي، لبنان،ج1.




________________________________________

:مسائل نافع بن الأزرق عن عبد الله بن عباس تحقيق محمد احمد الدالي،ط: 1،1993،ص:7و8.[1]
[2]: الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، نشر وتصحيح محمود شكري الألوسي البغدادي، دار إحياء التراث العربي، لبنان،ج1، ص:4.
[3] :ابن منظور، لسان العرب، تحقيق عبد الله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي، دار المعارف - القاهرة، مادة: [غ. ر. ب].

:ابن قتيبة، تفسير غريب القرآن، تحقيق أحمد صقر، مطبعة دار الكتب العلمية يبروت، ص: 3ـ 4 [4]
: ابن قتيبة، تفسير غريب القرآن، تحقيق أحمد صقر، مطبعة دار الكتب العلمية يبروت، ص:.3و4.[5]
: نفس المرجع ص : 37.[6]
:نفسه،ص:75.[7]
:نفسه، ص:27.[8]
:نفسه،ص: 224.[9]
:نفسه ص 97[10]
:نفس الرجع،ص145.[11]
: الزمخشري، الكشاف،ج1،ص 268.[12]



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق