الاثنين، 3 أكتوبر 2016

البديع والإعجاز من وجهة نظر أشعرية، الباقلاني نموذجا.

السعيد رشدي
الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى آله وصحبه.
وبعد،
تتناول هذه الورقة قضية البديع من زاوية الإعجاز، والإعجاز مسلمة عقدية عند المسلمين، ولم يشكك في ذلك إلا القليل، غير أن هذا الشك توسع وعاؤه في العصر العباسي لأسباب ارتبطت بـ"الشعوبية"، مما شكل تهديدا للنص القرآني وللعربية وأهلها، فاتجه أهل العلم على اختلاف توجهاتهم ومذاهبهم للدفاع عن النص القرآني كل واحد من زاويته، وكتاب "إعجاز القرآن" للباقلاني(403هـ) يندرج في هذا السياق، وهو مصدر النص[1] المشكل لمادة هذه الورقة، والتي ارتأينا لها العنوان التالي: " البديع والإعجاز من وجهة نظر أشعرية، الباقلاني نموذجا".
يقوم تصور الباقلاني للبديع على القضية التالية:
 ينفي الباقلاني، وهو المدافع الشهم عن التصور الأشعري في البلاغة العربية، أن يكون الإعجاز متعلقا بالبديع، كما ينفي عنه أية إمكانية للاستدلال به على الإعجاز، وذلك لأن الإنسان قادر على الإتيان به بعد التصنع والتدرب كما هو قادر على صناعة الشعر بعد التريض، غير أنه يرى  أن البديع إذا كان من مقتضيات المعنى فإنه يجوز أن يكون رونقا للشعر وجنسا من البلاغة، وضربا من البراعة، وفنا من أفانين كلام العرب الذي لا ينفك القرآن عن أساليبه، إن النص القرآني وإن كان لغة من جنس لغة العرب فإن له ارتباطا بالإعجاز، لذلك انقطع أمل الإنسان في التعمل له ونظم مثله لاقترانه بالتحدي,  ولبسط هذه الفكرة عمد الباقلاني إلى بناء حجاجي سنعرضه مختصرا من خلال براهينه والتي قسمها إلى قسمين:
براهين غير صناعية؛ وضح من خلالها الباقلاني أن الوجوه التي يقدر البشر على التصنع لها لا يتأتى منها الإعجاز، وهي الشعر والبديع، موضحا ذلك بلامية أبي تمام التي منها قوله:
متى أنت عن ذُهلِيَّةِ الحي ذاهلُ""" وصدرك منها مُدةَ الدهر آهلُ
 أما الاعترافات؛ فقد عضد رأيه برأي الأدباء في أبي تمام بقوله: "ومن الأدباء من عاب عليه هذه الأبيات ونحوها على ما قد تكلف من البديع...فقال: قد أذهب ماءَ هذا الشعر ورونقه وفائدته".
ولم يكتف بالبراهين غير الصناعية فقط، بل امتدت براعته الحجاجية لملامسة البراهين الصناعية التي تمت له على مستوى اللغة، فجاءت لغة الباقلاني في بعض الفقرات مسجوعة للإقناع والإمتاع، يقول واصفا غلو أبي تمام في الصنعة البديعية: "وكان التكليف باردا، والتصرف جامدا، وربما اتفق مع ذلك في كلامه النادر المليح، كما يتفق البارد القبيح".
ومما تعمل له أيضا في سياق حجاجي القياس المضمر في قوله: "وقد قدر مقدرون" بالتنكير؛ بمعنى إذا كانوا مقدرين على منوال تقدير الوليد بن المغيرة فأنا لست مقدرا، وقوله" وربما أسرف في المطابق والمجانس" وهي إحالة على الإسراف بالمعنى الديني، أما غيره فليس مسرفا إشارة لاعتدال البحتري.
أما على مستوى الأسلوب؛ فقد عمد إلى إعمال ثنائية النفي والإثبات، وتظهر هذه الثنائية في نفي البديع عن دائرة الإعجاز، ونفي الشعرية عن بديع واستعارات أبي تمام المتكلفة، يقول:" فهذا من الاستعارات القبيحة والبديع المقيت"، غير أنه أثبته في البلاغة وكلام العرب وفي شعر البحتري ما لم يكن متكلفا، مما يطرح إشكالية ماهية البديع، والتنكير: في قوله:" وقد قدر مقدرون" وفائدته التنقيص من قيمة الخصم، والروابط: منها تلك المدرجة للحجج كقوله: "وليس كذلك عندنا، لأن، ... وذلك ك" ويبين ما قلنا...ومن ذلك أيضا التوكيد بأدوات كـ: لأن، إن، والتكرار كقوله: "الوجوه التي نقول إن إعجاز القرآن يمكن أن يعلم منها فليس مما يقدر البشر على التصنع له" و:"لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع" و" لأنا لا نجعل الإعجاز متعلقا بهذه الوجوه".
وفي جانب الترتيب في حججه فقد دافع الباقلاني عن تصوره للإعجاز في علاقته بالبديع متبعا ترتيبا كميا من خلال حشد الكثير من الشواهد المؤيدة لتصوره حول أبي تمام والبحتري، وخرج بخلاصتين :
الأولى: أن القرآن الكريم لا يصح وقوع مثله أبدا نظما وتأليفا.
الثانية: البديع إذا كان بتكلف فهو مقيت، قبيح، مستبشع، مستشنع، وإذا اقتضاه المعنى، وكان على وجه طلب السلامة، فهو جنس من أجناس بلاغة العرب، ولا ينفك القرآن أن يكون فنا من فنونها.
لقد وظف الباقلاني هذا البناء الحجاجي لنسف مقولات الآخر المقدِّر ومنها ما كان حول البديع، وإثبات أخرى لا تنزع إلى التصنع والإسراف أي بديع العربي بالفطرة، على نحو قائم على التقليل من شأن المقدر الخصم ومقولاته، خصم عنيد متنوع متلون أقحم البديع في الصراع، فكان هذا الأخير مساحة للفعل ورد الفعل.
       إن الوقوف على هذه الأفكار يطرح مجموعة من الأسئلة حول ماهية البديع في تصور الباقلاني خاصة والأشعري عامة، وتقسيمات هذا التصور، وأساس التقسيم، وتقسيمات القول، والدافع لذلك، وبتعبير آخر: ما الذي حرك الباقلاني في هذا النص؟ وهل صار البديع ضحية للحسابات الإيديولوجية؟
 هذه الأسئلة تجد أجوبتها بين ثنايا نصه بمساهمة نص آخر غائب، غير أن جوابه عنها يولد أسئلة أخرى تظل مفتوحة، إن الباقلاني وهو يحوم حول البديع والإعجاز مدفوع بدافع إيديولوجي واضح؛ لذلك وضع القارئ أمام ثلاثة أنواع منه، وهي: البديع المقيت، والبديع البارع، وبديع نظم القرآن، غير أنه تحرج في إضافة النوع الثالث إلى القرآن فقال:" بديع نظم القرآن" ولم يقل:" بديع القرآن"، هذه القسمة الثلاثية تجعل القول على ثلاث طبقات؛ طبقة منحطة ومتصنعة البديع(إشارة إلى بعض قصائد أبي تمام، وشعر المولَّدين، ومتعلم اللغة العربي بالاكتساب، أي الفارسي والرومي والشعوبي، وغيرهم...)، وطبقة متوسطة مطبوعة البديع (شعر الأعراب الأقحاح، العربي بالمنشأ، متكلم اللغة المثالي، أي الإنسان العربي بالأصل يمثله البحتري)، وطبقة عليا تشتمل البديع نظما، وهو ما أضيف إلى القرآن، كلام الإله، يقول:" ونحن نميز كلامهم، وانحطاط درجة أقوالهم، ونزول طبقة نظمهم، عن بديع نظم القرآن".
 غير أن ما يعاب على هذا التقسيم كونه تقسيما إيديولوجيا من خارج النص ، فمعياره هو منشئ الخطاب تكلفا، أو طبعا، أو نظما، وهو ما جعل ماهية البديع متلونة، وتحرُّج الباقلاني من إضافة البديع إلى القرآن له خلفية مذهبية، وفيه رد واضح على أهل الاعتزال أصحاب مقولة اللفظ، لذلك أقحم النظم في التركيب الإضافي لإقحام المعنى باعتبار تعلق البديع باللفظ، وذلك مناصرة لتصوره الأشعري السني، وهذا امتداد لقضية اللفظ والمعنى، أما في علاقته بالشعوبيين فقد تحرج منه لارتباطه بالتخييل وارتباط التخييل بالسحر والكذب، وهذا من مداخل التشكيك،  علما أن القرآن فيه من البديع كثير.
  هذا التقسيم المعتمد على منشئ الخطاب يطرح سؤال الفعالية والنجاعة، ومن جهة أخرى فإنه يوقع حجج الباقلاني في بعض الهنات؛ فبعودتنا "للعمدة" لابن رشيق نجده يقول: إن الجرجاني استلطف واستغرب الطباق في البيت الشعري  لأبي تمام:     
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس """ قنا الخط إلا أن تلك ذوابلُ[2]
فهذا يفتح سؤالا أخر على البديع وهو: ما الذي جعل الجرجاني يستغرب البيت والباقلاني يمقته وهما على مذهب واحد؟ يرى ابن رشيق أن الجرجاني استغرب طباقه بين "هاتا" و"تلك" وإحداهما للحاضر والأخرى للغائب فكانتا في المعنى نقيضتين وبمنزلة الضدين، ويرى ابن رشيق عكس ذلك أن هاتا للقريب وتلك للبعيد، ومهما قيل فالحضور والغيبة أو القرب والبعد كلاهما يؤشران ويجسدان بنية المفارقة التي يؤسسها الطباق ومجموعة من الظواهر البديعية، هذه البنى تتجاوز دلالتها التحسين إلى تكوين بنى النص التي تعكس الوجدان، وتؤسس للصدق في القول الشعري وصنع الخطاب. والنظر إلى البديع من هذه الزاوية يفتح السبيل للطعن في صحة كل الأحكام النقدية التي أطلقها على البديع وبديع أبي تمام بالتحديد. بعد هذا، هل البديع مقيت فعلا؟ أم أن الباقلاني الفقيه المتكلم المحاجج لم يسعفه انشغاله بعلم الكلام في تذوق البلاغة، وهو ما جعله يستبشعه ويجعله عدوا لما لم يعلم، أم أن نصه جواب عن سؤال اللحظة التاريخية لحظة الحزم والحسم والتصدي للهجوم العقدي والثقافي والحضاري، والتغاضي عما دون ذلك؟ أسئلة ستبقى مفتوحة للبحث.
ومهما كان في الأمر، فلقد أقحم الباقلاني البديع كما أقحمه خصمه في قضية إيديولوجية، ولم ينظر إليه من زاوية الإبداع الأدبي وقوته في تشكيل الخطاب سواء في القرآن أو في الشعر، وهو ما أضر بالشعر والبديع في لحظة تاريخية معينة، قضية سيعيد لها الجرجاني بعضا من اللمعان من خلال جعل الشعر مسلكا لمعرفة الإعجاز بعد أن استبعده الباقلاني، ومن خلال فكه لإشكالية البديع والتخييل، وهي نقطة كانت محرجة له أيضا، هذا الأمر يجعلنا نستنتج أن بناء النص الحجاجي لديه قائم على نسف النص الآخر المخالف مقابل إثبات النص القرآني.
هنا نعود للسؤال المفتوح المطروح قبل قليل: ما الذي جعل الجرجاني يستلطف بيتا استغثه الباقلاني وهما على نفس المذهب؟
إن الجواب عن هذا السؤال يصيب البناء الحجاجي لتصور الباقلاني بالضرر في جانب كبير منه، ويفتح الباقي على الريب، إنه القوة التي يحملها البديع في تكوين الدلالة والإقناع والاستمتاع في آن واحد، إنه القوة التي كان يمكن أن تكون منطلقا للدفاع عن الإعجاز، فتح ظهر بعض من بريقه في مؤلفات ابن جني في "سر صناعة الإعراب" و"الخصائص"، كما ظهر في "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" للجرجاني، لكنه لم يستغل لظروف تاريخية كان فيها التراث جوابا لأسئلة أخرى غير ما نطرحه اليوم، وإذا كان من حسن حظنا أن هذا التراث ما زال محفوظا اليوم، فإن السؤال المطروح هو: ألا يستحق البديع أن يسعد بمشروع إعادة القراءة وإعادة قراءة التراث من خلاله؟ إن نتائج ذلك قد تجيب عن بعض من أسئلة اليوم التي يهيمن فيه تحليل الخطاب وتكوينه على حقل العلوم الإنسانية والاقتصاد والسياسة والرياضة والتواصل والمعلومة وغيرها.
المصادر:
[1] : أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني، إعجاز القرآن، تقديم وشرح وتعليق الشيخ محمد شريف سكر، دار إحياء العلوم، بيروت.
2ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الرابعة 1972 دار الجيل، بيروت، لبنان.


   



[1]: أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني، إعجاز القرآن، تقديم وشرح وتعليق الشيخ محمد شريف سكر، دار إحياء العلوم، بيروت، من157 -163
: ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الرابعة 1972، الجزء الثاني، ص9.[2]