الأربعاء، 27 فبراير 2019

التعليق الرياضي، الوجه الآخر للعنف!


 التعليق الرياضي، الوجه الآخر للعنف!
بقلم: السعيد رشدي
لم تعد مشاهد العنف داخل الملاعب تعكس الصورة البانورامية التي كانت تنسجها المخيلة حول البساط الأخضر والمدرجات الملونة بألوان الطيف، الحالمة بالفرجة والاستمتاع بسحر كرة القدم كما كان الحال عليه في الماضي؛ فكثيرة هي الأحداث التي جعلت لحظات الملاعب سوداء منكسرة على أهلها من الرياضيين والمحبين والمشجعين، فتتحول أحلامهم إلى شظايا متناثرة تحرق المدرجات، وتجعل نص المتعة التي تخطها الأقدام بمداد الكرة على أوراق العشب بلا قارئ، والقارئ وحده من يمنح النص وجوده.
 والمباراة نص يجهض معناه العنف فيصير بلا معنى ولا جدوى؛ وما العنف إلا سلوك إنساني خالص وجانب من ذاكرتنا البعيدة، وهذا ما علمتنا الكتب السماوية والدراسات التاريخية؛ إنه ما تبقى من الميراث، قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ" (البقرة: 30)، وأسوأه كان بعد العقل والاستخلاف، بما لا يجعله شذوذا، بل سلوكا فطريا متأصلا من الطبيعة، وهي إشارة كولن ولسون: " لقد علمنا عالم الحيوان أن الجريمة ليست إلا جانبا من ميراثنا الحيواني"[1].
يُخرج العنف الذات الإنسانية على الدوام من حدودها الطبيعية والأخلاقية متحديا ومتجاوزا، فتخرج اللغة لحظة إلباسها لبوس الأفكار وتعبر بمعان لا تنضبط لقوانينها، إنها جزء منها وإن من خارجها؛ يا لغرابة اللغة! إنه "المتبقي" بتعبير جون جاك لوسيركل القادر على الانفلات بمحموله من الألعاب اللغوية والاستعارات والإضمار والحذف... لغاية الخرق؛ فيجعل العنف متعينا في الكلام بالفعل تعينه في المتكلم بالقوة، ومبلغ تقدير العرب لـ"الكلام"  إطلاقه على "الملفوظ"؛ وعقد المعنى النووي فيه على تقاليبه وتصاريفه؛ فاجتمعت عليه وأدارته على معنى "الجرح" من باب التصاقب؛ فمنه الملاكمة، واللكمة، والكلم، والمكلوم...، يقول لسان الدين بن الخطيب:
ومن بين مكلوم بحد سيوفها --- تسيل على الأعقاب منه جراحه
ولما كانت المعاني معقودة في نواصي الحروف، صارت اللغة أوقع في النفس من السيوف، فقال الشاعر: 
جِراحات السِّنانِ لها التِئامٌ --- ولا يلتامُ ما جَرَحَ اللسانُ
ومن ذلك ما كان بالتورية والتعريض والمدح المراد به الذم، ومنه قول الحطيئة في الزبرقان:  
دع المكارم لا ترحل لبغيتها--- واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
 فوجه اللغة في البيت المدح وقفاه الهجاء؛ وهو لعب لغوي ظاهره الجد وباطنه اللعب؛ وعليه تكون الكتب بمادتها اللغوية أصدقَ إنباء من السيف، على غير مذهب أبي تمام وتأويل الشراح في قوله:
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ--- في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ
ولا يبدو أن الشاعر لم يستشعر مذهبه في القول، إلا أن سياق المدح وإكبار الموقف أخذ منه مأخذه؛ فقدم السيف على اللغة، والخليل يقول: الشعراء أمراء الكلام.
 يطفو "المتبقي" فوق اللغة خاصة لغة المعلق الرياضي على مقابلات كرة القدم في النقل التلفزي من دون أن يلقى له بالا أو يثير اهتماما، ليشكل نسقا لغويا موازيا؛ يتمرد فيعكر صفو المقصود وحسن النوايا وسلامة الطوية، إنه العقل الباطن عند لاكان[2]، التوظيف الاستعاري فيه مدخل للتأويل ولترجيح محتملات المعاني بما فيه من البأس والشدة، وما له من القدرة على المناورة والتمرد.
ولئن كانت الاستعارة مدار الأمر في خطاب التعليق الرياضي؛ فإن ما يبرر ذلك هو صناعة الفرجة وإمتاع المشاهد؛ فيلتقي بيان اللغة بسحر الكرة، وإن من البيان لسحرا، والرهان استمالة المتفرجين وتحقيق المشاهدات القادرة على ذر المزيد من الأموال والأرباح للمؤسسات الإعلامية والشركات واللاعبين وأرباب المقاهي والفنادق...، وهنا وجه الاستعارات التي نحيا بها، بتعبير لايكوف.
 وأثناء ذلك، يتخذ خطاب التعليق الرياضي في القنوات الرياضية منحى استعاريا حربيا، ينزّله الجمهور تنزيلا عنيفا، بما يوجه لمأسسة العنف ونشر ثقافته؛ بلغة الإثارة والثأر والجرح... فيذكرنا بصخب الماضي الإنساني الأليم، صخب الكولوسيوم الروماني؛ وصراع العبيد والأحرار والعرض على السياف (Gladiateur) وأنياب الحيوان، تحت تصفيق الجماهير بروح سادية متعطشة للموت ورؤية الدماء، إنه جزء من ذاكرتنا القريبة، وجانب من ماضينا الحقير المستعاض عنه، أوروبيا، بثقافة الفرجة الرياضية والفنية أملا في بعث الروح الإنسانية وقيم التسامح والمحبة، وتجاوز مظاهر العنف والموت ورواسب التاريخ.
ههنا سجل لغوي شاهد على عنف لغة التعليق على مباريات كرة القدم مصدره القنوات التلفزية العربية، سجل يتوزع إلى ثلاثة أنساق كبرى كما صنفها الأستاذ هشام فتح في مقال من مقالاته، وهو النسق العسكري (المعسكر، المعترك، الدفاع، رهيب، رعب، الخوف، الهجوم، الكتيبة، الظفر، الأسلحة...)، والنسق الطبيعي( مواجهة ساخنة، نار نار، الأسود، القرش، زلزال، الطوفان البشري...) والنسق الأخلاقي (الكبرياء، الضيوف، الساحرة المستديرة، أكرم وفادته، الشياطين...)[3]، تتضافر هذه الأنساق لتؤسس خطابا استعاريا قوامه الحرب والعنف والقتال والموت والدمار، معجم الكولوسيوم بلا جدال، والمبالغة فيه للتأثير في المشاهد واستمالته، ديدنه اللعب اللغوي والاستعارة الترغيبية والترهيبية، والإقبال والإعراض، والحث والتنبيه والتحذير،... فيُحمَل بقوة المسموع والمرئي ليعيش صخب الصراع، مستركزا ثنائية النصر والهزيمة والحياة والموت، شعاره البقاء للأقوى؛ بصيغة فنية رياضية لا تخلو من محاججة، تعيد تشكيل الواقع ورسم الأشياء، وتوزع الأدوار والوظائف حسب الحاجة والظروف، لغاية النقد والإقناع بوجاهة الرأي وصواب الموقف.
 يستطيع المعلق الرياضي إنشاء خطاب استعاري كولوسيومي، يتمكن منه بلغة واصفة تخاطب الخيال وتعطل العقل، لغة غريبة تمزج بين الواقعية والمبالغة في الوصف بالاستعارة، فتتأسس الفرجة بلغة العنف وثقافته؛ يُحمَل بها المشاهد، سيكولوجيا، على تبني سلوكات تمتح وجودها ومادتها منه، فينعكس ذلك عليه وعلى خطاب الشارع لتكرسه البيئة؛ فمعجمه أفعال وصفات إنجازية تداولية "actes de langage" تؤثر في سلوك الجمهور، وتؤسس الاختلاف في طقوس الفرجة والنقل التلفزي للمباريات الكروية بين دول شمال البحر الأبيض المتوسط وجنوبه وشرق آسيا وغربها، طقوس تؤثر سلبا أو إيجابا، تعضدها عوامل أخرى اجتماعية واقتصادية كالفقر والمخدرات والبطالة والجهل...، والفرق واضح بين مشجعي دول الشمال ومشجعينا، نحن سكان الجنوب، وبين بلدان شرق آسيا وغربها في دورة كأس العالم الأخيرة بروسيا.
ولا ينكر أحد ما يكون للمعلق الرياضي، عادة، من قدرات خطابية مستمدة من اللعب اللغوي بالاستعارة والكناية والحذف والإضمار...، بالمقابل تتأكد مسؤولية الإعلام الرياضي في تكوين هذا الخطاب ونتائجه، خاصة وأن الاستعارة الرياضية الحربية تستطيع الانفلات من سيطرة المتكلم ومقاصده وأعراف اللغة وقوانينها، لتتحول إلى "متبق" مارد قادر على الخرق والهدم، لتكون من الاستعارات القاتلة بدل التي نحيا بها.
ولسنا نميل للقول إن الثقافة الرياضية العربية عنيفة بالمنشأ والبيئة؛ فالإسلام صحح مظاهر العنف ومشتقاته؛ من حقد وجهل وتنابز... المتوارثة عن الجاهلية تصحيحا مؤسِّسا لا رجعة فيه، والثقافة جسدت هذا التصحيح منذ مسار تاريخي طويل، والعودة إليه نكوص ثقافي وحضاري، وعليه فإن الدعوة إلى بحث الإبدالات الممكنة للاستعارة الحربية في التعليق الرياضي الإعلامي العربي أمر مطروح، وشرط إمكانه يبدأ من الوعي بأضراره وتوجيه البحث إليه داخل مختبرات البحث اللساني والإعلامي في مراكز البحث والجامعات، وتجريب  مدخل المقاربة بالنوع  لكسر الهيمنة الذكورية، وينتهي بخلق آليات التواصل بين مؤسسات البحث والإعلام وتبني النتائج.   
المصادر:
-      القرآن الكريم
-         جون جاك  لوسيركل ، عنف اللغة، ترجمة محمد بدوي، المركز الثقافي العربي، ط1، 2005.
-      كولن ولسن، التاريخ الإجرامي للجنس البشري، سيكولوجيا العنف، ترجمة رفعت السيد علي، إصدارات حور، ط1، 2001.
-      مدونة الأستاذ هشام فتح: madakhiil.blogspot.com  
     
هذا الموضوع منشور بالموقع الإعلامي كواليس اليوم، تحت الرابط:       
http://www.cawalisse.com/permalink/28987.html

ندوة المنجز اللغوي لتلميذ المدرسة المغربية، 2013، كلية اللغة العربية، مراكش، المغرب.