السبت، 29 ديسمبر 2018

في حضرة الأسطورة والاستعارة !

في حضرة الأسطورة والاستعارة !
https://m.hespress.com/writers/417171.html
بقلم: السعيد رشدي
مع الأسطورة الأمازيغية؛ يظهر الإنسان حاملا لقضايا وجودية كثيرة؛ تنهض على إبراز اللاوعي الجمعي، وتُوجِّهُه لتفتيق طاقات إنسانية لامحدودة وقادرة على تأهيله لمقاضاة القوى الروحية في منازعاتهما البينية التي يكون دعواها عادة قضايا الجسد، ليحتكم الجنسان معا لقاضي الجن المدعو "شمهروش"؛ قاض بديوان مظالم يتجاوز كل التصورات والأخيلة، تنزل أحكامه بردا وسلاما على الجميع، فيستريح الجسد وترتاح الأرواح.
 هكذا تصور الأسطورة قاضي الأطلس "شمهروش" الذي تحتضن بلدة "إمليل" السياحية ضريحه؛ مرجع التفوق الإنساني ورمز الاستعلاء؛ أليس "شمهروش" كائنا ناريا؟ ألم يُشد إلى الأرض فضم التراب رفاته؟ إننا لا نعلم حقيقة كل المعطيات المؤطِّرة لهذه الأسطورة، ولا نعرف الوقائع التاريخية المحيطة بالضريح تصريحا ولا تلميحا، لكن ما نعرفه يقينا أن توظيف هذا الاسم الأسطوري للإحالة على واقعة "إمليل" الإرهابية تفتق اللغة فيه، حقيقة ومجازا، دلالات وإيحاءات وعوالم شتى متعددة الأنساق والرموز، تختلط فيه العناصر والأمشاج لتوحد المختلف، وتضم الممكن إلى المستحيل؛ ويتقاطع الغيب مع الشهادة، وتتعالق النار بماء الأطلس وترابية الإنسان، لتنبثق الحياة من رحم هذه العلاقات والعناصر، وتصير الحدود بين الأجناس والطوائف والأديان والمذاهب والأعراق غير ذات معنى ولا جدوى؛ تاركة الفضاء لمعان أخرى أعمق وأسمى من كل وصف؛ معاني الحب والأمن والسلام.
ولم يكن ليكسر هذا الواقع سوى الحادث المؤسف الذي ذهبت ضحيته فتاتان إسكندنافيتان بريئتان؛ واقعة تحيلنا على سوابقها التي لم تندمل جراحها بعد في المغرب وخارجه، بما لا نرتضيه لوطننا ولا لقيمنا ولا لديننا ولا لإنسانيتنا، وإلا فما رأي الفاعل في قول الله تعالى :" مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"[1]، وفي قوله: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"[2]، وفي قوله :"لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"[3].
       إن جريان اللسان، تداولا وتدويلا، بالإحالة على الواقعة بالتركيب الإضافي الاستعاري "حادث شمهروش" استبطن المدثر الأسطوري في اللغة فشاركتها الإشارة؛ لتوحي بفراغ الحادث، حقيقة، من كل معنى موضوعي يقبله العقل الإنساني فراغ الأسطورة من المعاني الواقعية، غير أن الأمر ليس كذلك لغويا؛ فالاستعارة معضَّدة بالتركيب الإضافي المجازي كانت جسرا لتدوير معان أخرى منبثقة من اللاوعي الجمعي للأهالي ورؤيتهم للعالم.
لقد أثبت التركيب الإضافي الاستعاري في توظيف الحادث أن الإنسان يحيا بالاستعارة، كما قال لايكوف، بها نقل الحقائق الكونية في كل أبعادها وتجلياتها، وإلا فحق الحادثة أن تنسب أو تسند لفاعلها لتتعرف أو تعين أو تخصص، لا أن تنسب لفاعل غير حقيقي أو حتى ليس من جنسه أو جلدته أو طبيعته، لتمزج الصورة بنفَس شعري تراجيدي بين عالمين؛ طبيعي وماورائي، مزجا كيميائيا بطقوس أقرب ما تكون إلى السحر؛ فنتخيل حقيقته بشكل لم يكن أحد يتصوره، وإذا كان الأسطوري قادرا على الانفلات من سطوة التاريخ بقاعه الطوباوي، على حد تعبير منصف الوهايبي، فإن مغالبة المعنى بإسناده لشمهروش موجه لتبرير الاختيار؛ تعبيره إعلان الرغبة الجماعية في النسيان والتجاوز، وعقد الأمل في عدالة تنصف الضحايا هنا وهناك.
 إن اسم "شمهروش" الأسطوري بذاكرته المكتنزة بدلالات العدل وإيحاءات القوة والقهر، وبعوالمه الحاضرة والمشدودة إلى أرض الأطلس وإلى جبروت جغرافيتها، وماورائياته المحكية على لسان الأهالي في تسابيح ذواتهم التي تبوح كل يوم في سفوح "توبقال" بعشق الطبيعة والجمال والهدوء والاسترخاء، يكشف عمق الرؤية الوجودية لهذه الأسطورة، كما يستبطن أسرار تعلق الزوار من كل بقاع العالم بهذه الأرض وتاريخها وثقافتها، بما لا يتوافر في التوظيفات الزمنية والمكانية الموظفة لشبيهاتها.



[1] - سورة المائدة، الآية: 32.
[2] - سورة النحل، الآية: 125.
[3] - سورة البقرة، الآية: 256.

الاثنين، 28 مايو 2018

بلاغة الماء في شعر عبد العزيز الفشتالي

بلاغة الماء في شعر عبد العزيز الفشتالي
السعيد رشدي                                                                  
 تجربتي مع شعر عبد العزيز الفشتالي (956م)؛  لم تكن حديثة العهد؛ فقد تعرفت على جزء غير يسير من إنتاجه الغزير منذ سنوات الجامعة، ومما يغري بالمتابعة والتأمل النقديين تيمة الماء لا باعتبار ما وقف عليه وحسب، ولكن طبيعة الإحاطة به وتوظيفه الشعري بدلالاته الكثيرة والمتباينة الموزعة وفق مسارات وأنساق ثقافية وسياسية تكشف عنها بعض نصوصه منها قصيدته المعروفة بـ"القبة الخمسينية". ومما لاشك أن توظيفات الماء في النصوص الأدبية تجد صداها ورجعها في أنساقها الثقافية والدينية والاجتماعية الموازية التي تشكل مرجعها دلاليا ووظيفيا.
لم يكن الماء في الثقافة العربية مجرد عنصر حيوي أساسي للحياة، فالقرآن الكريم رسم صورة الماء وبين رمزيته وعلاقته بالإنسان والخالق والكون؛ فعبر عن أبعاده وأهميته في نشوء الحياة وضمان استمراريتها بقوله تعالى "وجعلنا من الماء كل شيء حي"[1]، بل وتدميرها أحيانا في قوله إشارة إلى قصة نوح عليه السلام "وفار التنور"[2]، وتجاوز الأمر إلى جعله مظهرا من مظاهر السلطة ووسيلتها في قوله تعالى "وكان عرشه على الماء"[3]، ومعرفة هذه السلطة وتمثل امتداداتها لا تتم إلا به وعبره، وصوّر حاجة الناس إليه في معاشهم بقوله:" ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون"[4]....
وغير بعيد عن القرآن، عبر الأدباء عموما والشعراء خصوصا عن ذات الأبعاد العقدية والاجتماعية والثقافية، وتتبعوا صوره وتجلياتها؛ فظهر في الشعر الجاهلي مستأثرا باهتمامهم، وكذلك كان الحال في المرحلة الأموية والعباسية، والشعر الحديث؛ ومن النقاد القدامى المهتمين والسباقين لإبراز صوره الثقافية في الشعر العربي، خاصة العباسي، نذكر الصولي في معرض دفاعه عن أبي تمام في قوله:
لا تسقني ماء الملام فإنني""" صب قد استعذبت ماء بكائي
  لقد شحذ الصولي لموقفه النقدي كل ما يحيط بالماء ورمزيته من دلالات ثقافية، وما ميز توظيفه الاستعاري في سياقات القول عند الشعراء؛ كأبي العتاهية وذي الرمة وابن أبي ربيعة وغيرهم؛ فتحدث عن ماء الملام وماء الصبابة وماء الوجه... [5]  إلى غير ذلك؛ على نحو عكس غنى حقله المفهومي ورصيده الرمزي الثقافي والقيمي الحضاري.
  ولم يكن احتفاء الشعراء بالماء ورمزيته الثقافية في المغرب أقل حظا عن نظرائهم في المشرق، بل إن احتفاءهم به كان أكثر تميزا متأثرين بطبيعة بيئتهم خاصة في الأندلس والمغرب؛ ومن هؤلاء نذكر شاعر البلاط السعدي عبد العزيز الفشتالي في قصيدته المعروفة في وصف "قصر البديع" والتي مطلعها: "سَمَوتُ فَخرَّ البَدرُ دونِيَ وَاِنحَطّا".
 تعد قصيدة وصف "قصر البديع" من أجمل قصائد الفشتالي؛ ذلك لأن الشاعر جدد في قصيدته وأبدع في موضوعها أيما إبداع، وتم له ذلك عبر مائية المعجم الموظف؛ ولم يكن ذلك ليتحقق لولا أنسنته لقصر البديع؛ فجعل الشعر يتدفق على لسان قبته الخمسينية وباقي مكوناته العمرانية مانحا إياه حركية مطلقة في الفضاء الكوني الشعري؛ وفق ذلك جاء شعره مملوءا بالمشاعر والآمال افتخارا به وبما يرمز إليه من سلطة في صورة تمزج بين العالمين الأرضي الثقافي والعمراني، والفلكي الكوني والطبيعي، وكان الأمر وفق بناء شعري تخيلي ظهرت فيه فاعلية نفسية ميزت الشاعر أثناء تركيبه لها على نحو يكشف عن أسلوب متميز في ابتكار الصور أهم ما ميزه ارتقاء الصورة في مخيلته قبل تحصل القول؛ فالشعر أسبق في الوجود من قوله كما يقال؛ لقد تناول الشاعر الفضاء الكوني لقصيدته بما يمكن أن نطلق عليه بـ"التبادل المقامي"؛ فجعل معماريته لا تنتظم وفق منطقها الطبيعي بل وفق منطق شعري خاص تهيأ له الشاعر نفسيا ووجدانيا؛ قوامه علوية معمار القصر"السلطة" سلطة الدولة السعدية وبلاطها الممتد في الفضاء المكاني للغرب الإسلامي، وسفلية المكونات الفلكية والكونية؛ من كواكب وأجرام وغيرها، المكون الطبيعي، بما يعكس سمو السلطة السعدية  ومنجزها الثقافي والحضاري، يقول الفشتالي:
سموت فخر البدر دوني وانحطا""" وأصبح قرص الشمس في أذني قرطا
وصغت من الإكليل تاجا لمفرقي""" ونيطت بي الجوزاء في عنقي سمطا
ولاحت بأطواقي الثريا كأنـــــــــــــــــها""" نثيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر جمان قد تتبعته لقطا
وعديت على زهر النجوم لأنني""" جعلـــــــــــــــــــت على كيوان رحلي منحطا*
ولعل هذه الصورة الشعرية الفضائية الراقية تظهر حجم الانسجام الحاصل بينها وبين نفسية الشاعر التواقة لمظاهر الرقي والارتقاء السياسي والثقافي والعلمي؛ ولاسيما وأنه شاعر البلاط والناطق الإعلامي للدولة السعدية على عهد المنصور الذهبي، فهي إذن جزء من حياته المتصلة بالسلطة، إن صورة السمو والارتقاء في الفضاء الكوني كما رسمها الفشتالي تجد صداها وارتدادها الثقافي والتناصي في بعض النصوص المقدسة؛ ومنها النص القرآني في قوله تعالى في سورة يوسف: "إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين" [6].
 ولئن كان تعبير الرؤيا "سجود الفلك بكل مكوناته ليوسف عليه السلام" تحقق وفق النص القرآني ذاته بالاتصال الحاصل بين يوسف وإخوته بعد القطيعة واسترجاع الماضي وحلوله في الحاضر؛ فإن ثمة ما يؤشر على هذا البعد الاتصالي أيضا في قصيدة الفشتالي بما تحقق من التداخل المنسجم بين الكوني والإنساني، والذي مؤداه حلول ماضي الدولة في حاضرها في صورة امتزج فيها الفضاء المكاني والزمني والطبيعي والحضاري بعد القطيعة؛ وما يبعث الحياة في هذا الاتصال ويضمن استمراريته وتواصله هو الحركة الفلكية للأجرام والكواكب الواردة في النص في علاقتها بالقصر وتبعيتها له، هذا التواصل تحقق بالصورة المؤسسة على اتصال الفلك والماء من جهة والشاعر والقصر من جهة أخرى عبر جسر كان يظهر حجم حضور الماء والذي اتخذ في الصورة موقعا مركزيا يرتبط بالحركية؛ فعبر عنه الشاعر بمعجم اتسم بتكثيف المصطلحات الدالة عليه وفق علاقات خاصة يقول:
وأجريت من فيض السماحة والندى           خليجا على نهر المجرة قد غطى
عقدت عليه الجسر للفخر فارتمت         إليه وفـــــــــــــــود البحر تغرف ما أعطى
يشق رياضا جادها الجود والنـــــدى      سواء لديها الغيــــــث أسكب أم أخطـــــــــــا
وسالت بسلسال اللجين حياضــــــــــه      بحارا غدا عرض البسيط لها شطـــــــــــا
تطلع منها وسط وسطاه دميـــــــــــــــــة       هي الشمس لا تخشى كسوفا ولا غمطا
حكت وحباب الماء في جنباتها        سنا البدر حل من نـــــــــــــجوم السما وسطا*
إن تتبع الحقل الدلالي للماء يظهر تأسسه على مجموعة من العلاقات؛ منها علاقة الاتصال الحاصلة بين الأجزاء (النهر والخليج والبحر والشط) وحقل الماء/الكل؛ فالبحر هو ذلك الامتداد الواسع للمياه، والخليج بعض منه حاصل من تضايق الامتداد المائي وتداخل أطراف اليابسة واقترابها من بعضها، وقد يتصل النهر بالبحر أو الخليج أو هما معا ولكل واحد منها شط؛ ومن هذا الفضاء المائي المتسم بالحركية انبتقت بقية المصطلحات المائية الموظفة؛ ومن ذلك: حباب الماء، والندى، والغيث، أسكب...، فتداخلت واتصلت ببعضها اتصالا طبيعيا، مقدمة الصورة ومجسدة لاتساق وحدات المقول الدلالية ومعبرة عن السياق السياسي للنص، صورة كشفت عن عنصرين مركزيين البعد الاتصالي للماء وسيميائيته المتصلة بالفلك من جهة والتبادل المقامي الحاصل فيه من جهة أخرى، وهو ما جعل القصيدة برمتها استعارة مائية فلكية تمحي فيها الحدود والفواصل.



[1] - سورة الأنبياء، 30.
[2]- سورة هود، 40 .
[3] -سورة هود، 7.
[4] -سورة القصص، 23.
[5] - الصولي، أخبار أبي تمام، ص:33
[6]سورة يوسف، الآية :4. 
  شعر عبد العزيز الفشتالي ، جمع وتحقيق ودراسة نجاة المريني، مكتبة المعارف،الرباط، 1986، ص:341-344.*