السبت، 17 ديسمبر 2016

بلاغة الإضمار في الخطاب الإشهاري

بلاغة الإضمار في الخطاب الإشهاري
السعيد رشدي
إن الحديث عن البعد التواصلي والاتصالي للصمت في الخطاب الإشهاري شيء في غاية الأهمية؛ لأن هذا الخطاب يقوم في الأصل على المكاشفة الساعية للتبليغ مع الاحتفاء بالمضمون؛ رغبة في التأثير والإثارة والإغراء والإقناع، وليتحقق ذلك، فإنه يوظف استراتيجيات مختلفة؛ من حيث الوسيلة التواصلية، واللغة في أبعادها الوجودية- الصائت والمصموت عنه- وترتيب مكوناته خطيا ضمن المساحة المخصصة له، وباعتبار القيم والأفكار التي يسعى للإقناع بها حجاجيا. وما يُهِمنا في هذه الورقة، هو كشف جزء من مواقع الصمت من خلال المضمر وطريقة تأثيره في المتلقي.
إننا، ونحن نحتفي بالإشهار باعتباره صورة من الصور الثقافية للمجتمعات الحديثة، نجد أنفسنا محاطين بأشكال غير مألوفة من التواصل، تتأسس في كثير من الأحيان على التحايل والاستدراج، وذلك بالإضمار المقصود لكثير من عيوب الرسالة "المنتوج"، وهذا يشكل تعديا مقصودا على المستهلك/المتلقي، واغتصابا لحقوقه، واستغلالا لوضعه الثقافي، ولا يتم ذلك إلا بتواطؤ بين المنتج ومؤسسات الإشهار والإعلام وجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني خاصة جمعيات حماية المستهلك.
 وبهذا الاختيار، يكون الخطاب الإشهاري قد مارس سطوتين على المستهلك؛ الأولى خداعية؛ تتجلى في استغلاله. والثانية وجودية؛ تتجلى في استغلال مساحات الصمت التي تمنح الكلامَ بعده الوجودي.
 ولئن كانت هذه المكونات المسكوت عنها في الخطاب الإشهاري مطعونا في سلامتها؛ اجتماعيا وثقافيا وعلميا على مستوى الحقيقة العلمية والثقافية فإن هذه المؤسسات تعمد، لتجاوز هذا الوضع، إلى استبدال الحديث عنه بتوظيف مغالطات متنوعة ومتباينة...؛ ومن نماذج ذلك: مغالطة الخبير، والعالِم، والأكثرية، ووضع علامات المختبرات الطبية، والتصريح بعبارات مثل: كل الخبراء يشيدون ب...، كل الناس يفضلون...، هذا المنتج تنصح به جمعية....
ومن مظاهر الصمت كذلك توظيف الخطاب الإشهاري للإغراء والاستدراج من خلال: "عدم التصريح"؛ وتتخذ المؤسسات الإشهارية هذه الاستراتيجية مع كل بداية واستعداد لغزو جديد؛ حيث تعمد إلى وضع أيقونات استفهامية في الوصلات الإشهارية تخفي طبيعة المنتوج أو اسمه، أو تبث وصلات سمعية أو بصرية حوله دون التصريح بتعريفه التجاري أو صورته، ويحدث هذا عادة قبل طرح المنتوج في المراكز التجارية؛ فيظهر أن المكاشفة الصامتة هنا تتخذ الصمت استراتيجة للاستدراج؛ وذلك لما لها من قدرة سيكولوجية هائلة على الإغراء والدفع بالمستهلك للاستفهام عن ماهية المنتوج، وتوجيهه للبحث عنه أثناء محاولات قراءته وتأويله.
 إن المستهلك يجد نفسه مدفوعا بدافع نفسي للتساؤل عن المنتوج والمساهمة في ترويجه وإشهاره، هذه الرغبة تثيرها قوة نفسية داخلية مفادها حبه للاستخبار والإخبار، وقد أشار الجاحظ في رسائله الأدبية إلى ذلك بقوله :" إن اللسان ترجمان القلب، والقلب خزانة تحفظ الأسرار والخواطر والعلم. والقلب يضيق بما فيه ويستثقله ويستريح إلى نبذه وإذاعته بواسطة اللسان. وهذا هو السبب في طبع الناس على حب الإخبار والاستخبار، واهتمامهم بالتاريخ وأحداثه وتدوينه. وقد سيطرت هذه الغريزة عليهم حتى عسر عليهم الكتمان وغدا من يكتم سره عرضة للسقم والكمد والكرب".[1]
يتأسس الخطاب الإشهاري على المكاشفة والحجاج والإقناع، غير أنه في أحايين كثيرة يتخذ الصمتَ بالإضمار مفتاحا للإبلاغ والتبليغ والإقناع مخترقا بذلك تباين اللغات والأجناس والثقافات، وبذلك يصير استراتيجية للاختراق وحشد التأييد وانتزاع الخصوصيات من أيسر المسارات، وذلك اعتمادا على دراسات تستند إلى علم النفس وعلم الاجتماع وباقي العلوم الإنسانية، وهو ما يجعل منه، استراتيجية ثقافية للتأثير والإغراء وإقصاء الاختلاف والهوية والخصوصيات الثقافية.
المصادر:
الجاحظ، رسائل الجاحظ الأدبية، تقديم علي أبي ملحم، دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر، بيروت، 2002.




[1] ) الجاحظ، رسائل الجاحظ الأدبية، تقديم علي أبي ملحم، دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر، بيروت، 2002، ص: 12.