الجمعة، 9 يناير 2015

لسانيات النص وأرضية التأسيس، قديما وحديثا.

 السعيد رشدي 
شهد القرن العشرون ثورة في الدراسات اللغوية؛ إذ تعاقبت النظريات العلمية وتباينت اتجاهاتها، غير أن هذا التعاقب والتباين والتعدد لم يحدث من فراغ؛ فتاريخ العلم والأفكار يشهدان أن كل النظريات العلمية تخرج من رحم التراكمات المعرفية والعلمية السابقة، في هذا السياق التاريخي أتت ولادة لسانيات النص من رحم اللسانيات لتكون جوابا عن أسئلة أخرى تم إغفالها في اللسانيات الجملية، فما هي الأرضية التاريخية التي أدت إلى تأسيسها في الغرب؟ وكيف انتقلت إلى الدراسات اللغوية العربية؟ وكيف تم تلقيها في البيئة العربية بالنظر للتراكمات المعرفية التي أنتجها الدرس اللغوي التراثي العربي؛ نحوا وبلاغة ونقدا ؟
                             I.            لسانيات النص في الغرب، عودة إلى الجذور الأولى:   
يشكل التركيب الاصطلاحي الإضافي "لسانيات النص" مدخلا لتناول أصول هذا العلم المضاف إلى اللسانيات والمنسوب إليها وجوديا، وتأسيس اللسانيات كما هو معروف يرجع لدوسوسير (1857-1913)، غير أن تشكلات هذا العلم بدوره يرجع إلى ما كان من ممارسات تنظيرية قديمة تميزت في عمومياتها بالاشتغال بالنحو أساسا في اللغتين اللاتينية والجرمانية على السواء، ومن أقدم الدراسات التي وصلت في هذا الإطار دراسات دانتي[1] (1265-1321)، وما ميزها هو اشتغالها بالجانب التاريخي، ثم تطور الدرس النحوي ليظهر علم الفيلولوجيا أي فقه اللغة، وعلى ضوءه تم اكتشاف التقارب بين السنسكرتية واللغات الجرمانية واليونانية واللاتينية، ثم بعده فقه اللغة المقارن، والذي غلب على هذه الدراسات جملة هو تاريخيتها، وفي القرن التاسع عشر حدث تطور كبير  بالانتقال مما هو تاريخي إلى ما هو وصفي، غير أن هذه الدراسات لم تستطع رسم حدود علم اللغة،  كما لم تستطع صياغة شروط ممارسته منهجيا بالشكل الذي تقتضيه الدراسة العلمية بمفهوم العلوم الحقة، إلى أن أتت محاولة "دوسوسير"؛ حيث حُدد موضوعها في دراسة اللغة في ذاتها ولذاتها، انطلاقا من صياغتها بواسطة ما سماه  بـ"وجهة نظر"، أما من ناحية المنهج فهذا الموضوع اقتضى منه تحديد المدونة الكلامية التي يرام الاشتغال بها corpus كموضوع،  محددا مجموعة من الآليات المنهجية؛ كالمنهجين التعاقبي والتزامني... إلخ، واستمرت الدراسات اللسانية بعد هذه المرحلة في سياقات أخرى على ضوء ما لوحظ على اللسانيات البنيوية من انشغالها بالجملة الأدبية الراقية وإهمالها للمدونة الكلامية العامية والنصوص، وهو ما تنبه له تلميذه "بالي" في فرنسا و"يلمسليف" في "كوبنهاكن" و"هاريس" في الولايات المتحدة، منبهين إلى أهمية الاهتمام بلسانيات النص في مقابل لسانيات اللسان، لقد شكلت هذه الآراء أولى الوشائج التي شكلت المرحلة الأولى.
المرحلة الأولى[2]: بدأت مع هاريس وسعت لتجسير العلاقة بين اللسانيات البنيوية ولسانيات النص، تُوجت هذه الفترة بمؤلف "هاريس" تحت عنوان "تحليل الخطاب" "Discourse Analysis" سنة 1952، اهتم فيه بالعناصر التي تحقق نصية النص والروابط والسياق الاجتماعي، غير أن هذه الدراسات والآراء لم تستطع وضع أسس وقواعد لهذا الاتجاه الجديد في اللسانيات، وهو ما حتم انتظار مرحلة ثانية.
المرحلة الثانية: ابتدأت بدراسات جديدة من أهمها إصداران مهمان كان أولهما مع "هايدولف" في ألمانيا وثانيهما "هاليداي ورقية حسن" بكتابهما " the Cohesion in English " في بريطانيا، ومن مميزات هذه المرحلة اعتبار النص متتالية من الجمل، وهو ما سيفسح الأفق لاستغلال اللسانيات البنيوية الخاصة بالجملة خاصة النظرية التحويلية التوليدية لتشومسكي، وأهم هذه القواعد ثنائيات القدرة والإنجاز، البنيتان العميقة والسطحية... إلخ،  وفي هذه المرحلة كذلك تم وضع جملة من القواعد الإجرائية التي تمكن من دراسة النصوص، غير أن اعتماد النظرية التوليدية التحويلية سرعان ما أظهر عجزا في تحليل النصوص، والسبب في ذلك إقصاء اللسانيات الجملية للجانب الدلالي والمعجمي والتواصلي واهتمامها فقط بالجانب التركيبي وآليات توليد الجمل للوصول إلى الملكة اللغوية، وهو ما حتم الدخول في مرحلة ثالثة.
المرحلة الثالثة: بدأت مع مطلع السبعينات، اتجه فيها البحث نحو نظريات بديلة، وأبرز علمائها: "دريسلر" و"دوبوكراند" و"فان ديك"، انفتحت في هذه المرحلة لسانيات النص على الدراسات الأدبية والعلوم الإنسانية مستغلة ما تراكم من الدراسات اللسانية التوليدية والخطابية.
لقد شكلت هذه المراحل البدايات الحقيقية لتشكل لسانيات النص، غير أن البحث في هذا الموضوع مازال في بداياته، ولم يستقل تماما عن لسانيات الجملة بل ظل تابعا لها؛ فلسانيات الجملة مازالت نواة له ومصطلحاته ومنهجيته مازالت مرتبطة بها، وبالإضافة إلى هذه الإشكاليات هناك عقبات إجرائية تتعلق بالنصية في علاقتها بالخطاب؛ فلازالت إشكالية الثنائية خطاب/ نص تلقي بظلالها على هذا العلم، وهو ما يجعله يظهر بمسميات مختلفة؛ تارة بعلم النص وتارة تحليل الخطاب، وتارة بلسانيات النص، ومن مشكلاته أيضا مشكل الصورنة.... في المقابل، تظل اللسانيات النصية منفتحة بموضوعها الذي يشكل مجالا منفلتا عن اللسانيات الجملية، كما ستظل حاضرة بالبعد التداولي والتواصلي والاجتماعي الذي ينبني عليه النص، وهو ما يفتح أفقا كبيرا أمامها خاصة إذا استطاعت  ملء التخوم التي مازالت ننفلت عن اللسانيات الجملية.
                          II.            لسانيات النص في الثقافة العربية    
                من العبث إسقاط أو ربط الفكر اللساني الحديث بالتراث اللغوي العربي القديم، فكل قراءة في هذا الاتجاه تحتمل الكثير من المنزلقات الفكرية والمنهجية، وإن أي محاولة في ذلك يحمل من الخطورة الشيء الكثير ما لم تتم في إطار مشروع علمي له من العدة المعرفية والعلمية ما يجعله قادرا على مواجهة هذا الموضوع، ومن الدراسات في هذه القضية نذكر دراسة أحمد المتوكل في كتابه :" «تأملات في نظرية المعنى في الفكر اللغوي العربي»، غير أن هذا لا يمنعنا من البحث في التراث عما نحن بصدده ليس في سياق اللسانيات ولكن في سياق يقوده السؤال التالي: هل استشعر علماء اللغة العرب القدامى بالظاهرة النصية وهم يشتغلون بالدرس اللغوي نحوا ونقدا وبلاغة؟   الجواب هو: نعم، وقبل تناول هذا الموضوع أود أن أوضح أن مصطلح النص حاضر  في التراث اللغوي بمعناه المعاصر، وارتبط لغويا بمفهوم البروز والظهور والرفع، ومنه سميت المنصة منصة لأنها تبرز ما ومن فيها، كما ارتبط أيضا بمفهوم النسج والنسيج texte بالشكل الموجود في الغرب ونصوص الجاحظ شاهدة على هذا، غير أن أكثر من اهتم بالنصية في الدرس التراثي هم الأصوليون الذين اعتبروا الكلام الإلهي والنبوي نصوصا باعتبار الكتابة، والاشتغال على النصوص القرآنية لغة وبلاغة وتفسيرا أدى إلى ظهور علم التناسب، والواقع أن البحث في هذا الموضوع وإعادة قراءته بالشروط العلمية الحديثة قد يلقي الضوء على الفهم المتقدم لعلماء المسلمين للظاهرة النصية، وأحيل هنا على بعض ما كتب في هذا الموضوع، ومنه: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" للبقاعي، يقول  نقلا عن الزركشي نقلا عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام:" المناسبة علم حسن لكن يُشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع لأسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث فضلا عن أحسنه"[3] وليس البقاعي المؤلف الوحيد في هذا العلم، بل إن الذين تحدثوا عن علم التناسب كثر منهم الحرالِّي المغربي في كتابه " مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل" والفخر الرازي وغيرهم، أما في الجانب البلاغي فقد شكلت مباحث الفصل والوصل جزءا من البحث في النصية، كما شكل العطف والبدل والتكرار والضمائر والروابط مباحث نحوية تسير في هذا الاتجاه.  وفي الدراسات الحديثة، ظهر البديع  كمجال خصب للاشتغال بالمفاهيم الحديثة للسانيات النص. صحيح، إن التصور القديم في جانب للبديع لم يتجاوز عتبة التحسين، لكن هذا لم يكن ينفي عنه دوره في تحقيق الحبك والسبك في النصوص بالشكل الذي يتم الحديث عنه في لسانيات النص، قضية البديع هذه ودوره في تشكل لحمة النص لم تطفو إلى ساحة البحث إلا مع انتقال المفاهيم الحديثة لعلم النص إلى الساحة الأدبية العربية، خاصة ما جاء من أفكار في كتاب "the cohesion in english  " لهاليداي ورقية حسن في بحثهما لموضوع التماسك خاصة مفهومي السبك والحبك، لقد استفاد البحث العربي من هذه الأبحاث فظهرت مؤلفات كثيرة في المشرق والمغرب، غير أن المغرب كان سباقا وأكثر تميزا بفضل الترجمة من اللغة الفرنسية؛ فأدى ذلك إلى ظهور مؤلفات ذات بعد نظري وتطبيقي منها "لسانيات النص، مدخل لانسجام الخطاب" لمحمد خطابي حاول فيه تأصيل هذا العلم في التراث الإسلامي وتحليل مباحثه، ومن المؤلفات التطبيقية لهذا العلم نجد "تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناص" لمحمد مفتاح، وفي المشرق ظهرت مؤلفات مهمة في هذا السياق منها مؤلف سعيد بحيري "علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات"، صلاح فضل "بلاغة الخطاب وعلم النص"، وجميل عبد المجيد "كتاب البديع بين البلاغة واللسانيات النصية" وسعد مصلوح "نحو أجرومية للنص الشعري" وكتاب " من نحو الجملة إلى نحو النص"غيرها.
خاتمة: إن أهم ما يمكن استنتاجه من هذا البحث هو أن أرضية تأسيس علم لسانيات النص لم تكن منفصلة عن علوم اللغة القديمة والحديثة، بل تشكلت بمنطق الترافد انطلاقا من الصلة التي تربطها باللسانيات والنحو والبلاغة، والكثير من المباحث مازالت مشتركة بينها وبين اللسانيات وباقي علوم اللغة، والعلاقة بينها يحكمها منطق التعاون، فاللسانيات النصية تستفيد من الأدوات النحوية والبلاغية كما تستفيد من اللسانيات الجملية.
المصادر والمراجع:
1: البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
2: ، مؤتمر لسانيات النص وتحليل الخطاب، جامعة ابن زهر أكادير، ط1،  2013 دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع، الأردن.
3: ر، ه، وربنز، موجز تاريخ علم اللغة،  سلسلة عالم المعرفة،  ترجمة أحمد عوض، عدد نونبر، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، 1997.






[1]: ر، ه، وربنز، موجز تاريخ علم اللغة، سلسلة عالم المعرفة، ترجمة أحمد عوض، عدد نونبر 1997، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، ص 238.
: رشيد عمران، مسار التحول من لسانيات الجملة إلى لسانيات النص، مؤتمر لسانيات النص وتحليل الخطاب، جامعة ابن زهر أكادير، ط1، 2013دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع، الأردن، ص379.[2]
: البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، الجزء الأول، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ص 7. [3]

الجمعة، 2 يناير 2015

غريب القرآن، جولة مع القراء في كتاب: "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة.

إعداد:  رشدي السعيد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على خير الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم.
وبعد؛
        نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين،  موافق لسنن العرب في كلامهم؛ صريحه ومجمله، حقيقته ومجازه. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم المفسر الأول لما أُجمل منه، والمقيد لما أطلق، والمفصل لما أوجز. ولما كان الموت قضاءَ الله في خلقه، أخذ الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جواره، فانشغل المسلمون بعده بالقرآن الكريم وشؤون الدين والحياة، غير أن تباعد الزمن وظهور قضايا جديدة جعل تلقي لغة ومعاني القرآن دون مستوى الفهم السائد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لذلك سارع الصحابة إلى الاجتهاد في تفسير ما غَرَب عنهم، وأول ما سجل من ذلك مسائلُ نافع بن الأزرق التي دارت حول معاني بعض ألفاظ القرآن الكريم، جاء في مسائل نافع بن الأزرق[1]: «فكان ابن عباس رضي الله عنه يجيب ونافع يسأل؛ وهل تعرف العرب ذلك، ويجيب ابن عباس أما سمعت قول الشاعر[...] فيذكر الشاعر». فكان ذلك أولى بدايات تفسير أغربة القرآن.
ومن الكتب المشهورة بموضوع الغريب في القرآن نجد كتاب "تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة.
 يعد هذا الكتاب تتمة لكتاب آخر موسوم بـ "تأويل مشكل القرآن"، وإذا كانت كلمة "الغريب" تختلف في معناها عن "المشكل" فإن عدم اتفاق كتاب "تفسير غريب القرآن"  في الموضوع والمنهج مع "تأويل مشكل القرآن" جعلت الكاتب يعزل "الغريب"، فكان ذلك، رحمه الله، من سننه في التأليف؛ إذ كان يظهر منهجية واضحة في تصنيف المواضيع والإيجاز فيها تخفيفا على القارئ، وتجنبا للملل.
وكتاب "تفسير غريب القرآن" من أوثق كتب تفسير الغريب خصصه المؤلف لتفسير أغربة القرآن؛ أي تلك المفردات التي تباعد عهد تداولها عن ألسنة الناس لأسباب زمنية أو مكانية أو لاختلاف القراءات وغيرها، وقد صنفه المؤلف على ترتيب سور القرآن الكريم، واعتمد فيه على كتب المفسرين وأصحاب اللغة، من دون إسهاب، ومن دون ذكر الإسناد، إلخ.
حقق الكتاب الأستاذ أحمد صقر رحمه الله سنة 1958، وفيها توفي المحقق رحمه الله، ونشر في دار الكتب العلمية ببيروت لبنان بعد هذا التاريخ في طبعات مختلفة آخرها سنة 1978، وهي المعتمدة في هذه الجولة، ويقع في جزء واحد من 588 صفحة، مغلف بورق مقوى من اللون الأحمر الداكن.
 3 قراءة في العنوان
مفهوم التفسير:
 لغة: يقول الألوسي[2]: «التفسير تفعيل من الفسر وهو لغة البيان والكشف ».
واصطلاحا: ويقول كذلك: «علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب».
مفهوم الغريب:
 ذكر ابن منظور في اللسان أن غَرَبَ "من الغروب، أي غيوب الشمس ..."والغَرْبُ الذهاب والتنحي عن الناس، وقد أَغْرَب عنا يغرُبُ غَرْبا ... وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتغريب الزاني سنة... والغَرْبةُ والغَرْبُ النوى والبُعد"[3]
فظهر من التعريفين أن التفسير منهج في الوصول إلى مراد الله من خلال كلامه، والغريب ينصرف إلى الألفاظ البعيدة العهد تداوليا بين زمن الوضع الأول وزمن آخر موال ظهرت فيه، فيحس سامعها في الزمن الموالي، نتيجة لتطور اللغة، بغربتها عن مسمعه، فيكون ذلك حائلا بينه وبين معناها. فكان لابد من شواهد شعرية تسترجع تلك الدلالة، لتكون دليلا عليها.
وتوالى اهتمام المفسرين بأغربة القرآن الكريم، وأفردوا لها تصانيف كثيرة، ومن أشهرها: تصنبف ابن قتيبة الموسوم ب : "تفسير غريب القرآن" .
4- موضوع الكتاب وتقسيماته:
أفرد المؤلف الكتاب لغريب القرآن من دون تأويل مشكله؛ لأنه أفرد لتأويل مشكله مؤلفا آخر. ويتضح تقسيم ابن قتيبة لكتابه، من قوله : " نفتتح كتابنا هذا بذكر أسمائه الحسنى، وصفاته العلى، فنخبر بتأويلهما واشتقاقهما، ونتبع ذلك ألفاظاً كثر تردادها في الكتاب، لم نر بعض السور أولى بـها من بعض ثم نبتدئ في تفسير غريب القرآن"
فظهر أن تقسيمات الكتاب تمت كما يلي:
من ص 1 إلى 5: مقدمة المحقق والمؤلف.
من ص 6 إلى 20: اشتقاق أسماء الله وصفاته.
من ص 21 إلى 37: باب تأويل حروف وردت في الكتاب، ويقصد بالحروف الكلمات الأكثر ورودا في القرآن الكريم.
من ص 38 إلى نهاية الكتاب: خصص للغريب على ترتيب السور القرآنية.
 5 - منهج ابن قتيبة في كتاب تفسير غريب القرآن:
لم يكلفنا ابن قتيبة عناء البحث في منهجه المعتمد في تأليف الكتاب؛ فقد أورد في مقدمته غرضَه ومنهجَه فقال:" وغرضنا الذي امتثلناه في كتابنا هذا أن نختصر ونكمل، وأن نوضح ونجمل، وأن لا تستشهد على اللفظ المبتذل، ولا نكثر الدلالة على الحرف المستعمل، وألا نحشو كتابنا بالنحو وبالحديث والأسانيد. فإنا لو فعلنا ذلك في نقل الحديث، لاحتجنا إلى أن نأتي بتفسير السلف رحمة الله عليهم بعينه. ولو أتينا بتلك الألفاظ، كان كتابنا كسائر الكتب التي ألفها نقلة الحديث، ولو تكلفنا بعد اقتصاص اختلافهم، وتبيين معانيهم، وفتق جملهم بألفاظنا، وموضع الاختيار من ذلك الاختلاف، وإقامة الدلائل عليه، والإخبار عن العلة فيه؛ لأسهبنا في القول، وأطلنا الكتاب، وقطعنا منه طمع المتحفظ، وباعدناه من بغية المتأدب، وتكلفنا من نقل الحديث ما قد وقيناه وكفيناه". [4]
ومما لوحظ في منهجه في التفسير، تجنبه ما يلي:
- التوجيهات النحوية والقرائية في التفسير:
تجنب ابن قتيبة الغوص في الاختلافات النحوية والقراءات القرآنية في توجيه التفسير، وهذا راجع إلى تعمده اجتناب الغوص في التفصيلات، والأسانيد، غير أن المنهج السني ظهر في اختياراته.
- أساليبه في التفسير:
جنح ابن قتيبة إلى الإيجاز ما أمكن، ودرءا للتطويل كان كثير الإحالة على كتاب تأويل مشكل القرآن، وهو ما يجعل "تفسير غريب القرآن" تابعا له ومفتقرا إليه، كما اعتمد التفسير السياقي، وتجنب الاعتماد على الشرح بالترادف.
6- مصادر ومراجع الكتاب :
يقول ابن قتيبة في مراجع الكتاب:" وكتابنا هذا مستنبط من كتب المفسرين، وكتب أصحاب اللغة العالمين، لم نخرج فيه عن مذهبهم، ولا تكلفنا في شيء منه بآرائنا غير معانيهم، بعد اختيارنا في الحرف أولى الأقاويل في اللغة، وأشبهها بقصة الآية، ونبذنا منكر التأويل، ومنحول التفسير " [5]
والمتصفح للكتاب سيجد أن ابن قتيبة اعتمد على كتب التفسير ومن بينها:
أ - القرآن الكريم: ومن مثال تفسيره للكتاب بالقرآن استشهد بقول الله عز وجل في سورة البقرة : "ذلك الكتاب لا ريب فيه" الآية 2 .[6]
ب- الحديث النبوي: حديث :"فمن قضيت له بشيء، من حق أخيه، فلا يأخذه...[7]
ج - مصادر اللغة
 -المعاجم الشعرية :استشهد في شرحه اللعن ببيت الشماخ الوارد في ديوانه :
ذَعرْتُ به القطا ونَفَيت عنه     مقامَ الذئب كالرجل اللعين [8]
- كتب اللغة: روى عن إبراهيم النخعي والقول ورد في اللسان "كل شيء ليست له نفس سائلة لا ينجس الماء إذا سقط فيه".
د-التفاسير: اعتمد على العديد من التفاسير التي كانت قبله، والمعاصرة له؛ كتفسير أبي عبيدة، و تفسير الطبري، وغيرها.
7- قضايا وملاحظات في تفسير ابن قتيبة:
- اهتم ابن قتيبة كثيرا بتفسير أغربة القرآن بالقرآن في الدرجة الأولى، واستشهد ب 111 سورة و290 آية قرآنية، ثم فسر بالحديث النبوي، واستشهد ب 60 حديثا نبويا، واستشهد بالأقوال والأمثال المأثورة عن العرب فوصل عدد استشهاداته 51 استشهادا، واستشهد ب 111 بيتا شعريا لشعراء من الطبقات الثلاث، فيظهر من خلال هذه الإطلالة الإحصائية طبيعة وملامح الشخصية العلمية لابن قتيبة الموسوعية والممنهجة والمنسجمة مع توجهه الاعتقادي بصفته أحد أعلام أهل السنة والجماعة.
- لم يظهر على ابن قتيبة  النزوع إلى الاجتهاد العقلي؛ فلم يتوغل في تقاليب الكلمات ولا اشتقاقاتها، ولا مجازاتها، بل أخذ الاستشهادات على معانيها الظاهرة سيرا على نهج ابن عباس في مسائل نافع.
- جانب ابن قتيبة الصواب في بعض اجتهاداته، والتي لم يبنها على اشتقاق الكلمة؛ ومن ذلك تفسيره لقول الله تعالى في سورة الرعد الآية 4: [9] «وفي الأرض قطع متجاورات» «بقرى متجاورات» والصواب، حسب المحقق، أن يتركها على أصلها ولينصرف إلى تفسير التجاور كما فعل الطبري؛ حيث فسرها ب: "في الأرض قطع متقاربة بالجوار".
- لم يراع المؤلف أي ترتيب في القسمين الأولين؛ فقد وقف في القسم الأول على تفسير أسماء الله الحسنى من دون ترتيب وذكر في أولها: الرحمن، فالرحيم، فالسلام، فالقيوم، فالسبوح .. وفي القسم الثاني:  الجن والناس، فإبليس، فالشرك ..إلخ.
- ومن الملاحظات في التفسير كذلك  اعتماده على شعر وأقوال من غير معرفة قائلها مأخوذة من كتب اللغة، فرمى بمسؤولية ذلك على أصحاب اللغة؛  ومن أمثلتها كتب الأمثال [10]، علما أن اختلاف غرضي اللغويين والمفسرين يوجب اختلاف المنهجين؛ لأن اللغويين همهم هو الكلام الإنساني، أما المفسرون فَهَمُّهم هم الكلام الإلهي.
- ومن منهجه في الاستشهاد اعتماده على شعر ثلاث طبقات:
أ- الشعراء الجاهليون: كامرئ القيس، ولبيد، والأعشى...إلخ
ب- الشعراء المخضرمون: كالأخطل، والخنساء...
ت- والشعراء الأمويون: عروة بن أذينة الليثي، وذو الرمة..
ولم أجد استشهادات لشعراء من الطبقة الرابعة وهذا يبين ملمحا آخر في منهجه قوامه الاستشهاد بشعر القدامى، والأكثر قربا من زمن الوحي.
- ومن الملاحظات كذلك أن ابن قتيبة تعامل مع المفردات القرآنية في معناها الأساس ولم يشر إلى ما يمكن أن يكون متعالقا معها من المعاني بفعل السياق، ولبيان ذلك فسر ابن قتيبة الآية 67 من سورة المائدة "والله يعصمك من الناس" بقوله: «أي الله يمنعك منهم[11]،  وعصمة الله إنما منعه العبد من المعاصي، ويقال هذا طعام لا يعصم أي لا يمنع من الجوع»، أما الزمخشري في الكشاف فقد ربطها بالسياق الوارد في السنة النبوية فيقول في الكشاف أن العصمة من الناس يراد بها العصمة من القتل، قال:« فإن قلت أين ضمان العصمة وقد شُج في وجهه يوم أحد وكُسرت رباعيته صلوات الله عليه؟ قلت المراد أنه يعصمه من القتل»[12] .
- ظهر ابن قتيبة في منهجه في تفسير الغريب بكل خصائص المفسر السني الذي أخلص لمبادئ أهل السنة والجماعة؛ فتجنب الاجتهاد العقلي، وآثر النقل، غير أنه تساهل وتوسع في اعتماد الرواية الشعرية وأقوال العرب؛ فأخذ القول عن مجهول تحت مسمى "قول قائل"، و"قال الشاعر"، وغيرها، فاتفق مع الزمخشري في هذا الإطار, وهذا وجه التأثر بمنهج اللغويين في تعاملهم مع اللغة خاصة الكوفيين الذي ينتمي إليهم بالنشأة .
هذا منهج ابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن" ظهرت من خلاله شخصيته اللغوية والفقهية، كما ظهر من خلاله منهج أهل السنة والجماعة في تفسير الغريب، فكان ذلك سندا كبيرا لانتشار الكتاب ونجاحه  بصفته أهم كتب تفسير الغريب في العالم الإسلامي إلى اليوم.
المصادر والمراجع:
1- ابن قتيبة، تفسير غريب القرآن، تحقيق أحمد صقر، مطبعة دار الكتب العلمية يبروت، لبنان، 1978.
        2 - الزمخشري، الكشاف عن غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، ج1. تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي أحمد معوض، مكتبة العبيكان، 1998.
       3 - ابن منظور، لسان العرب، تحقيق عبد الله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي، دار المعارف – القاهرة.
    4 - مسائل نافع بن الأزرق عن عبد الله بن عباس، تحقيق محمد أحمد الدالي، مطبعة الجفان والجابي، قبرص، ط: 1،1993.
     5- الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، نشر وتصحيح محمود شكري الألوسي البغدادي، دار إحياء التراث العربي، لبنان،ج1.




________________________________________

:مسائل نافع بن الأزرق عن عبد الله بن عباس تحقيق محمد احمد الدالي،ط: 1،1993،ص:7و8.[1]
[2]: الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، نشر وتصحيح محمود شكري الألوسي البغدادي، دار إحياء التراث العربي، لبنان،ج1، ص:4.
[3] :ابن منظور، لسان العرب، تحقيق عبد الله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي، دار المعارف - القاهرة، مادة: [غ. ر. ب].

:ابن قتيبة، تفسير غريب القرآن، تحقيق أحمد صقر، مطبعة دار الكتب العلمية يبروت، ص: 3ـ 4 [4]
: ابن قتيبة، تفسير غريب القرآن، تحقيق أحمد صقر، مطبعة دار الكتب العلمية يبروت، ص:.3و4.[5]
: نفس المرجع ص : 37.[6]
:نفسه،ص:75.[7]
:نفسه، ص:27.[8]
:نفسه،ص: 224.[9]
:نفسه ص 97[10]
:نفس الرجع،ص145.[11]
: الزمخشري، الكشاف،ج1،ص 268.[12]



الخميس، 1 يناير 2015

مناهج التحقيق عند المستشرقين، جوتهلف برجرستراسر نموذجا.

إعداد:  رشدي السعيد
 I.    
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يرمي هذا المقال إلى التعرف على نموذج من مناهج التحقيق عند المستشرقين وخاصة المدرسة الألمانية، وتكمن أهمية هذا الاختيار في كونه يكشف عن خلفية علمية وثقافية مختلفة، وكونه اختيارا علميا تطبيقيا أكثر مما هو نظري،  وقد وقع اختيارنا على المستشرق الألماني جوتهلف برجرستراسر انطلاقا من انتمائه إلى المدرسة الألمانية في الاستشراق، والتي تميزت أعمالها بحياد علمي يشهد به الكثير من الدارسين مقارنة بالمدارس الأخرى كالفرنسية والإيطالية، وغيرها. أما ما تميز به الكاتب فهو مشواره الطويل في تدريس هذا العلم، واحتكاكه بالمخطوطات العربية، وتأثيره في العديد من المحققين العرب الذين قدموا خدمات سديدة للتراث العربي.
                           II.            صاحب الكتاب: هو المستشرق الألماني جوتهلف برجرستراسر، ولد في 5 أبريل 1886 في ضواحي بلاون بسكسونيا، درس في المدارس الحكومية، وتعلم العديد من اللغات منها العربية والعبرية بالإضافة إلى اللغات الأوربية، التحق بجامعة لايبزغ في 1904، وتعرف فيها على المستشرق "فيشر"؛ حيث نال في نفس الجامعة شهادة تدريس اللغات والتاريخ الإسلامي. وفي 1912، نال شهادة تدريس اللغات السامية، ألف كتبا كثيرة، ونشر العديد من المخطوطات، وسافر في البلاد العربية وتعلم لهجاتها. في الموسم الدراسي 1929/ 1930، استقدمته الجامعة المصرية لإلقاء محاضرات في التطور النحوي للغة العربية،  ونقد النصوص ونشر الكتب، توفي سنة 1932.
تقسيمات الكتاب
مقدمة  تطرق الكاتب فيها إلى بدايات نقد النصوص القديمة التي كانت بداية من القرن 15، وكانت هذه البدايات في أوربا نابعة من أهمية إحياء الآداب القديمة اليونانية واللاتينية، ولم يكن الباحثون عن النسخ الأخرى للمخطوطات يستهدفون مقابلتها ببعضها، ولم يكونوا كذلك يصححون إلا أخطاءها البسيطة، لكن مع بدايات علم الآداب القديمة "phililogie" جمع الباحثون النسخ، وانتقوا الأهم منها، إلا أن هذه الاجتهادات كانت نظرية فقط؛ لافتقارها للقواعد، هذه الظروف أدت إلى نشوء التأليف في نقد النصوص. بعد ذلك، قام المستشرقون بحمل هذه الأصول واستعمالها في نصوص الآداب العربية، وكان برجرستراسر أول من ألف ونشر في هذا الفن عام 1931.
تتبع الكاتب عملية نشر المخطوط من بدايتها إلى نهايتها؛ انطلاقا من ثلاث محطات تبتدئ بنُسخ المخطوط، ثانيا النصوص، ثالثا العرض على النشر، ممثلا لكل مرحلة بنماذج.
1)  القسم الأول
ü    النسخ الخطية: يرى الكاتب أن النسخ الخطية تتفاوت حسب قيمتها؛ فمنها ما لا قيمة لها في التصحيح، ومنها ما يعول عليه ويوثق منه، وتقدير قيمة النسخ يتبع المعايير التالية:
- أن تكون كاملة، وواضحة، وقديمة، ودخلت في مقابلات مع بعضها البعض، إلا أن هذه القواعد ليست ثابتة؛ حيث من الكتب ما اعتمد في نسختها على نسخة واحدة، إذا تعذرت المقابلة فيها بين النسخ لضعف المتوفر منها، أو فيها نقص أو سوء ترتيب؛ في هذه الحال يتم بناء النشر على نسخة واحدة وحديثة، ولا يتم استعمال القديمة، كما هو حال " اللمع في التصوف" لأبي نصر عبد الله بن يحيى السراج، نشره نيكلسون في ليدن 1914، وكذلك كتاب "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" لموفق الدين السعدي الخزرجي، فيظهر أن أقدمية النسخة ليس مبررا وحيدا لتفضيلها، فيُحتاج لمعلومات أخرى لإثبات التفضيل، ومن ذلك معرفة كاتب النسخة الذي من الأفضل أن يكون هو مؤلفها، كما يجب ملاحظة الفروق بين المسودات والمبيضات من النسخ، والمسودة أقرب إلى الأصل من المبيضة، وإن كانت المبيضة هي التي تكون في غاية الكمال كما أراده لها المؤلف، ومن أمثلة هذه الحالة "الوافي بالوفيات" للصفدي.
بعد هذا، تستمد النسخ أهميتها من نقلتها الثقة والطلبة الذين ينقلون عن المؤلفين سماعا أو استملاء أو استنساخا على شرط تصحيحهم، وعدم إجازتهم الكتب إلا بعد قراءتها عليهم كلها. وما ميز الكُتاب المسلمين إشارتهم إلى أماكن تواجد النسخ المكتوبة بخط مشاهير المؤلفين في أماكن بعينها، وتقدير المخطوطات المكتوبة بخط المؤلف كان ميزة علماء العرب مقارنة مع علماء الغرب، وفي ضوء هذا تتشكل تراتبية العالم والطالب والناسخ، ومن ميزة النساخ في هذه التراتبية عدم فهمهم لما يكتبون بسبب التسرع في الكتابة من أجل الكسب، مما يؤدي إلى كثرة التحريف والتصحيف الذي يعتبر شرا في اللغة العربية مقارنة مع اللاتينية لاتصال الحروف في اللغة العربية .
أما ما يتعلق بالنسخة فإن الناسخ عادة ما يؤشر على تاريخ النسخ والمخطوط المستنسخ منه، غير أن كثيرا ما يتم ذكر تاريخ النسخ الأول ولا يتم ذكر تاريخ النسخ الثاني، والثالث، إما سهوا أو رغبة في الترويج، مما يؤدي إلى التضليل، إلا أن الناقد يجب أن يتنبه إلى الإسناد في أولها، فيكون ذلك سندا لمعرفة تقارب النسخ، وأصولها.
ولقد أتى برجرستراسر بمجموعة من الأمثلة؛ حيث تم اعتماد النسخة الثانية بدل الأولى، ومن هذه الأمثلة كتاب "الوزراء" لأبي الحسن بن إبراهيم الصابي الكاتب؛ حيث وُجد للكتاب نسختان؛ الثانية مأخوذة من الأولى، غير أن الأولى كانت كاملة عند استنساخ الثانية، ثم نقص أولها وآخرها، فكان الأساس في الكتاب النسخة الثانية، ليصل في النهاية إلى أن تحقيق أصل النُّسخ له شأن كبير .
إذا كانت النسخ تحمل دلائل ظاهرة على النسبة الحاصلة بينها، فإن هناك كذلك دلائل باطنة، ويلتجئ إليها الناقد عند عدم تحصل الدلائل الظاهرة، وأهمها: الإخلال، والتقديم والتأخير ثم الأخطاء، ومن أمثلة ذلك سقوط الأوراق؛ فيتم النسخ من النسخة المبعثرة كفي ديوان "قيس بن الخطيم"، وقد تسقط الأسطر سهوا مثال: "آثار البلدان" لزكرياء القزويني 682هـ، وتكون الأخطاء دليلا لبيان النسخة الأصلية  مثال "آثار البلدان" حيث بين الخطأ النسخة الأصل، وقد تتفق النسخ في الخطأ كبيرا أو صغيرا، هنا يجب التنبيه للخطوط،  وقد تجد نسخة مكتوبة من أصلين كما هو شأن "الفهرست" لابن النديم؛ فقسم مأخوذ من نسخة الإستانة، والقسم الثاني مأخوذ من مكتبة "شهيد علي باشا"، كما نجد أحيانا نسخة مصححة على نسخة من غير التي نسخت منها كما هو حال " المجموع في الفقه" للإمام زيد بن علي.
ü    الإبرازات:  (الطبعات) تبرز الطبعات تباعا حسب رغبة المؤلف تصحيحا أو توسيعا للمضمون أو إضافة لملحقات، ويحدث هذا عادة أثناء الإذن بنسخه أو إملائه على الطلبة أو إهدائه، وقد يحدث الإبراز بعد موت المؤلف، ومن واجب الناشر اختيار إبراز أو طبعة واحدة للكتاب، وعدم المزج. والإبراز الذي يستحسن طبعه ما كان من المؤلف نفسه، أو التي تلتها مباشرة بعد وفاته، وتؤثر المسهبة على المختصرة، والمصححة على المختلة، والتي تكون منتشرة على الناذرة، وإذا خالف الناشر ذلك  وجب عليه الإخبار؛ ومن ذلك " رسالة حنين بن إسحاق" 262هـ التي خضعت لإبرازات متعددة  من طرف كاتبها في 241 هـ ثم 249هـ ، والإبرازات في كتب الفقه والحديث أكثر في غيرها، أما في كتب اللغة فموجود ومن أمثلته كتاب " الإبل" للأصمعي له روايتان؛ الرواية الثانية تحتوي على ما لا تحتويه الأولى، ونشر على الرواية الثانية، ونبه المؤلف إلى إمكانية وقوع الإبرازات حتى في الشعر الذي وصل شفويا، وخاصة الشعر الجاهلي الذي سجل فارق قرنين أو أكثر بين الرواية الأولى وتدوينه الذي حصل في عهد الأصمعي، وهو ما جعل المؤلف يفتح بابا على قضية النحل التي تبناها طه حسين لاحقا، وقد بين المؤلف بعض أسباب ذلك في اشتهار بعض القصائد الطويلة ببعض الأبيات القليلة التي تدور على ألسنة الناس ثم ينسى قائلها وتنسب إلى غيره، كما يحدث تزوير، وإسقاط الأبيات التي يرى عدم صحتها؛ ومن أمثلة اختلاف الروايات الخاصة بشعر الأعشى؛ إذ وصل منه ديوانان؛ الأول يحتوي على خمس عشرة قصيدة، والثاني أكثر من ذلك؛ مما يعني أن الأولى أسقطت من الثانية الشيء الكثير، هنا طرح الكاتب السؤال: هل الشعر الجاهلي حق؟ أم مزور كله؟ ولقد لحقت هذه القضية حتى الشعر الأموي، ليقف على أن المقيد في النسخة قد يكون بعيدا عن الأصل، مما يطرح السؤال: ما هي وظيفة الناشر؟
ü  وظيفة الناشر أو الناقد: يحدد الكاتب وظيفة الناشر في الحرص على الرجوع إلى الأصل رغم صعوبة الحصول عليه من الإبرازات عبر مقابلتها ببعضها البعض، وعدم مزجها. هذه هي الطريقة الوحيدة للوقوف على الأصل والحقيقة، أو للوقوف على ما هو أقرب إليها على الأقل من دون استخدام الحدس والتخمين والإتيان بما يوجد خارج الديوان، كما يجوز انتقاد الروايات، لكن لا يجوز التدخل فيها، ولإفراز الروايات وضح الكاتب بعض الطرق  كالروايات الثانوية، ووقوع بعض الأخطاء النحوية من الناسخ ....والروايات الثانوية يقصد بها ما هو مروي في متون الكتب الأخرى، ويؤدي إليها اختلاف الروايات، أما نسخة الكتاب فهي رواية أولية، والرواية الثانوية أنواع:
ü    الشروح: والشرح يتضمن النسخة الأولية مع إبراز لها، ويقوم الشارح عادة بتهذيب المتن أولا ويصحح ما يراه خطأ.
ü  الترجمة: حيث يتم ترجمة الكتاب من لسان إلى آخر، فتتضمن الترجمة النص الأصلي وبجانبه ترجمته، ومن أمثلة ذلك "تاريخ الطبري" المترجم إلى الفارسية.
ü    الاقتباس: ومثاله "إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب" لياقوت الحموي 626هـ فأكثر مادته موجودة في الكتب التي اقتبس منها ياقوت مادته، ولأن النسخ قليلة فقد قارن الناشر بينها وبين النسخ المقتبس منها، وكذلك التي ألفت بعده، وكذلك "بغية الوعاة" للسيوطي، وعلى الناقد الاحتراس من إمكانية أن يكون الكاتب حافظا للنصوص دون أن يكون ناقلا من الكتب السابقة، هنا لا يجب التصحيح أو التغيير، وإلا سيكون الناقد قد أدخل في الكتاب ما ليس منه. ومن وجوه الاقتباس اقتباس الشعر، ويرجح فيه الرواية الأولية على الثانوية، ولا يستعان بالثانوية لتصحيح الأولية إلا إذا وجد اضطراب في الاستنساخ، وما يعد كذلك من الروايات الثانوية كل مرجع يستدل به على صحة الأصل، والتي يجب على الناقد جمعها واستعمالها بحذر زائد خاصة مع إشكاليات النقط والحروف والشكل الذي لم يكن في النصوص الأولى،  وإنما كان من فعل النساخ من بعد، والنقط أكثر حاجة للحجة من الشكل؛ لأن الشكل كان قديما بينما النقط مستحدث، فإذا كان المؤلَّف قديما كان النقط زيادة من النساخ، وإذا كان حديثا فإن النقط يكون من المؤلف لا من الناسخ؛ ومثال ذلك نقط ديوان "عمر بن أبي ربيعة" الذي كان من الناسخ، ووقوع بعض الأخطاء النحوية فيه كان من الناسخ كذلك.
ولمعرفة النسبة الحاصلة بين النسخ يقوم الناشر بترتيبها على قسمين عام وجزئي:
عام: يعتمد الحكم فيه على قيمة الرواية بأجناسها في علاقتها بأقدمها؛ بمعنى أنه يتم التحقق مثلا من أن النسخة "أ" أكبر قيمة من النسخة" ب" و"ج" حيث نجد في "أ" مثلا:" قال أبو بكر بن عمر الحصاف " غير أننا نجد في "ب" و"ج" "عمرو" مكان "عمر" في هذه الحالة تكون "ب" و"ج" أصح من "أ" لأنه لو كانت "أ"  هي الصحيحة لقلنا أن كاتبي "ج" و "ب" أخطآ، علما أنهما مستقلان عن بعضهما البعض، ووقوعهما في الخطأ معا ضعيف الاحتمال.
2)  القسم الثاني: النصوص
          وقد ألحقه الكاتب لأن نقد النُّسخ لا يعنى بتهذيب نص الكتاب من جهتين:
أولا: لأنه لا يمكن ترتيب النسبة بين النسخ، وأن الترتيب ليس قطعيا، ولا تتضح به النسبة الحاصلة بينها.
ثانيا: أن التحقق من الرواية الأصلية عن طريق الترتيب يؤدي إلى عدم الحاجة إلى اختيار بعض القراءات دون البعض، وهل هي صحيحة أم غير صحيحة. والنقد وسيلة لاختيار القراءة الصحيحة، ولا يتأسس النقد إلا بعد الفهم الذي تقر به الشروح، والشروح كثيرا ما تخطئ؛ لذلك وجب نقد الشروح، ومن أمثلة ذلك شرح الشارح لبيت من رجز العجاج "عشي ربيع واقصري في من قصر" فقرأها الشارح عَشي، أما الناقد  "نولدكه" فيراها عُشي أي الزمي عشك! وعَشي بفتح العين من عشى الإبل أي رعاها ليلا، وهذا ينافي سياق البيت الذي يشبه فيه الشاعر بني تميم بالعصافير. وفهم النصوص يستقيم بأمرين: معرفة موضوع الكتاب، ومعرفة اللغة والأسلوب، ويؤكد الكاتب أن "علم الأشياء والأسماء" مفيد في معرفة موضوعات النصوص وإصلاح خطأ الشراح، ومن الأشياء التي تدلل النص أمام الناقد رأي المؤلف وغرضه من الكتاب وفصوله؛ لأنا نستعين بذلك على نقد ما يخالف ذلك، فإذا خالفت النصوص ما ينويه المؤلف أمكن نقدها وإصلاحها، وهذه أهم المنافذ لإصلاح المتون، البرهان والأسباب المرجحة لإيجاد الوهم والتخيل، ومن الوسائل التي توصل لمعرفة النصوص كذلك معرفة اللغة والأسلوب.
ü  معرفة اللغة والأسلوب: يشترط الكاتب لفهم النص معرفة الأشياء قبل الأسماء ثم معرفة اللغة والأسلوب، فكان واجبا على الناشر معرفة اللغة العربية والإحاطة بها، وعدم تغيير ما صعب الإحاطة به إلا إذا ثبت أن عدم الفهم يرجع إلى النسخ، هنا يمكن ملاحظة الفرق بين النسخ انطلاقا من اللغة والأسلوب، فيمكن بذلك نقد النصوص انطلاقا من هذا المعيار، ومن أمثلة ذلك كتاب:" الرد على الزنديق اللعين ابن المقفع" لترجمان الدين الحسن الطباطبا الرسي، فغير الناشر عبارة "ذي الأمثال العلي" ب "ذو الأمثال العلا" بخلاف كل النسخ. ولا يجوز الاكتفاء بمعرفة اللغة فقط بل لابد من معرفة أسلوب الكتاب ولغته كذلك، هنا يمكن له إصلاحه، ويتركز هذا الإصلاح على ما هو ظاهري فقط كالحروف والنقط والشكل.
ü  التنقيط: يحتاج التنقيط إلى كل وسائل النقد والتصحيح؛ فالثقة في النقط أقل من الحروف، والتصحيف أخطر من التحريف، ودراسة لغة وأسلوب المؤلف يعين على إصلاح التصحيف والتحريف؛ ومن أمثلة ذلك في كتاب "الرد على ابن المقفع": "وليس أنهما (أي النور والظلمة) هما الأصلان دليل واضح به يثبتان أكثر من تحكم العماة في الدعوى والاعتساف منهم فيها للغشوى) وشرح الشارح الغشوى بالغشاء الذي على العيون، أما الناقد فاقترح للغشوى العشواء، والعشواء هي الناقة التي لا تبصر، ولم يتنبه الشارح والناقد إلى ما يوجد عند المؤلف مما يوازي ذلك الكلام؛ فقد ذكر المؤلف نفسه في مكان آخر" وهل ينكر أن نور الشمس يدرك ذلك منها بالحس معشاة لبعض العيون"؛ أي تعمى، فيظهر أن العين هي الصحيحة، ومما نبه إليه الكاتب أن وقوع خطأين في كلمة واحدة  أبعد من احتمال وقوع خطأ واحد، ونفس الشيء في الشعر.
ü  التفليق: ويقصد به عطف ضدين على بعضهما؛ ومن أمثلته في كتاب ابن المقفع " ما بين الخواص من العرب والعوام" بمعنى كلهم، ومن شرطه التضاد، وقد جاء في الكتاب الفعل والعبث وهما ليسا متضادين، فلا يمكن اعتبارهما تفليقا معبرا عن العدم، لذلك وجب ترك العبث وقراءتها عينا، فيكون معنى الجملة أن النور ليس له فعل ولا عين، وما يؤكد هذه القراءة السجع المرافق للجمل، فوجب اعتبار ما حل بالعبث هنا تصحيفا. ومما يجب الانتباه إليه في نقد النصوص سقوط ضمائر المضارع؛ إذ لا تنقط ضمائر المضارع في الكتب القديمة، ونقطها النساخ، وارتكبوا أخطاء فيما يخص اللفظ أحيانا وفيما يخص اللفظ والمعنى أحيانا أخرى، ومن الأول: التردد بين المذكر والمؤنث وياء المفرد الغائب وتاء المفردة الغائبة إذا سبق فاعل يجوز معه المعنى الواحد، هنا لا بد من الرجوع إلى أسلوب المؤلف وطريقة استعماله للضمائر.
أما الثاني: فهو يغير المعنى أو تركيب الجملة لتغير النقط، ومثال ذلك من الرد على ابن المقفع :( قيل فالحرارة عندكم يا هؤلاء من شأنها الإحراق  وقد ترى الناظر يديم النظر إلى شروق الشمس فلا يحرق ناظره)، وهذا في نظر الكاتب غير صحيح،  والصحيح هو إبدال تاء "ترى" بنون المضارعة لتصير "نرى".
ü  إصلاح الشكل: ومثاله من نفس الكتاب " وإن به لطائفا من لمم الشيطان ومسه " واللمم مس خفيف من الجنون، والقراءة الصحيحة: "وإن كان عندنا لحمقه وضعفه لمما لا أحسب بأحد حاجة إلى كشفه". غير أن الشكل أقل إشكالا من التنقيط؛ لأنه ليس جزءا من النص بل هو زيادة كالشروح، فيجوز للقارئ أن يغيره إذا كان خطأ.
ü  أخطاء النساخ: ذكر الكاتب أن لا نقد إلا بالفهم الحاصل من السياق والعبارة، وذلك لفهم النص من جهة المؤلف، ومن جهة الناسخ،  وأثر ذلك في النسخ،  ويخضع النص لتغيير الناسخ من وجهين تعمدي أو اتفاقي أو كليهما في آن واحد؛ فالأخطاء التعمدية تكون عادة بالزيادة بغرض شرح المتن وقد يكون التغيير بالتصحيح، وأنواع التغييرات الاتفاقية كثيرة مقارنة بالتغييرات غير المتعمدة، وترتبط كثيرا بإسقاط الحروف أو الكلمات، ومن الزيادات الاتفاقية كذلك إدخال الحواشي في النص ضنا أنها سقطت منه، ووجدها الكاتب في " الحيل في الفقه" للحصاف، ومن الأخطاء كذلك التقديم والتأخير نتيجة السهو والغفلة وإبدال الكلمة بالكلمة،  ومن أمثلة ذلك إبدال القلب بالنفس  كفي ديوان "عمر بن أبي ربيعة ".
ü  التحريف: ويحدث بقلب الحروف سهوا، مثل "عمل" و"علم"، وقد يخطئ الناسخ في قراءة ما هو مكتوب في الأصل ويكتب غيره، وينتج عادة بالتغاير في الحروف بين الخطوط. والتحريف موضوع من موضوعات علم الخط العربي الذي يحتفي بأنواعه ويشكل فنا من الفنون الجميلة في الشرق ومن أنواع الخطأ: الخطأ في الإملاء نتيجة عدم تعرف الكاتب على الكلام المملى فيكتب غيره.
ü  الأخطاء النحوية: حيث يستبدل النصب والجزم بالرفع، أو إبدال المذكر بالمؤنث والفاء بالواو والأعداد.
ü  الخلل في النسخ: ومن جنسه الخلل الطارئة على الأصل من نقص أو قطع  لبعض صفحاته  أو قص هامشه، وهو موجود في كتاب " الحيل في الفقه" للقزويني نشره شاخت. وبتتبع هذه الأخطاء يتوجب طرح السؤال: كيف أمكن لنص غير مفهوم مغلوط أن يجد مقاما في نص واضح صحيح ؟ هناك قاعدتان أساسيتان في نقد النصوص وهما:
النص الأقصر هو الصحيح، وهو الأقرب إلى الاحتمال.
النص الأصعب هو الصحيح، غير أن هذا المعيار قد لا يكون دائما صحيحا، ولكن استخراج النصوص المغلوطة من السليمة تقوم على هذه القواعد.
3)       القسم الثالث: العمل والاصطلاح
            وهو باب خصصه الكاتب  لوصف مسار الراغب في نشر الكتب القديمة معتمدا على ما سطره العالم الألماني "STAHLIN"  المتخصص في الفيلولوجيا؛ حيث بين الكاتب أن أول ما يجب معرفته هو: هل نشر الكتاب أم لا، ويمكن معرفة ذلك بالاطلاع على فهارس المكتبات، فإذا كان غير منشور أو كانت نشرته فاسدة فإنه يجب استقصاء النسخ الموجودة لمخطوطات الكتاب، وما ينصح به في هذا الإطار هو كتاب" تاريخ الآداب العربية" لبروكلمان، والفهارس العربية للمخطوطات، أو سؤال رجال العلم، ثم مقابلة النسخ واختيار أهمها وأنفسها، ولقراءة النسخ قد نكتفي بقراءة قطع مختارة منها ومقابلتها وخاصة ديباجتها أو آخرها، ومقابلة الاصطلاحات، والمقابلة بين النصوص معروفة في التراث الإسلامي مند النبي (صلى الله عليه وسلم)، فكثيرا ما كان علماء المسلمين يقابلون نصوص الترجمة، أما اليوم فقد أصبحت المقابلة أسهل مما كانت عليه حيث تخضع لتقنيات حديثة.
ü    والمقابلة نوعان: مشافهة ومعاينة، وتكون الأولى بقراءة أحدهم ومقابلتها بأخرى، أما المعاينة فهي معروفة في الغرب، وهي أن يقرأ الناقد نسخة ويحفظها ثم يقرأ النسخة الأخرى،  وحسب الكاتب فالمعاينة أكثر تدقيقا من المشافهة؛ لأن القارئ يضطر إلى إضافة النقط والشكل  من عنده ولا يعرف الناقد السامع  ما كان من النص وما كان من القارئ، غير أنه يتعين على  الناقد أن يقابل بين النسخ بالأصل الواحد المختار، والمقابلة عمل متعب، واجتناب كل الأخطاء صعب، ثم يتم ترتيبها لاستخراج درجات التناسب الحاصلة بينها، وذلك للوصول إلى الأصل. و بالانتقال من النسخة يكون النص هو المرحلة المقبلة للنقد، ونختار الأقرب إلى النص الأصلي ولتهذيبه نحتاج إلى نص واحد حتى لا نمزج بين الروايات المختلفة، ولنقده ننظر في:
ü    الإملاء: يعتبر الرسم القرآني مجال البحث الوحيد الذي تناوله البحث الإملائي أما في مجال اللغة فلم يخضع للبحث، مما يطرح إشكالا في نقد النصوص؛ حيث نجد مجموعة من إشكالات الهمز في الكتب القديمة، والذين ألفوا في الإملاء نذكر منهم ابن قتيبة، وقد اقتبسوا أشياء كثيرة من القرآن الكريم، لذلك لا يجب تطبيق القواعد الحديثة في الإملاء على النصوص القديمة أثناء التعامل معها، ولا بد من مراعاة الإملاء القديم  الذي استعمله المؤلف، وعلى الناقد والناشر مراعاة الطرق اللائقة بالكتاب، ويلحق التصحيف والتحريف كثيرا الأسماء الأعجمية والأشخاص والأماكن.
ü    الترقيم: يؤدي الترقيم السيئ إلى أخطاء، فالواجب على الناشر ضبطه، وإن كان النص العربي سهل قراءته بدون ترقيم، وأثناء الطبع لا بد من التفريق بين طبع النثر وطبع الشعر، ولا بد من حسن تقسيم النصوص إلى فصول، والتنبه إلى المواد، ويجوز زيادة علامات الحصر ك() لحصر ما ليس من النصوص .
ü    الإرجاع: وفائدته تسهيل الرجوع إلى الموضع من الكتاب بعد كل طبعة،  ومن طرقه تقسيم الكتاب إلى فصول ومواد بحيث يسهل على المراجع الرجوع إلى الموضوع، أما في الشعر فيتم ترقيم الأبيات على الهوامش، كما يمكن وضع الإحالات، ويستحسن التقليل والإيجاز في الإحالات والهوامش؛ لأن الغرض الأساس هو عرض نص المتن وليس غير ذلك.
ü    نشر الكتب بطبع الصور الشمسية لمخطوطاتها: إذا لم يوجد للكتاب غير نسخة واحدة  ينشر الناشر صوره الشمسية، ويكون ذلك بديلا عن الكتابة، كما فعل GUNABURG في نشره لديوان "ابن قزمان"، ونشر صور الكتب المصححة خير من نشر صور كتاب مستعص عن التصحيح والشرح.
                بعد الحديث عن المتن والهوامش، انتقل الكاتب للحديث عن المقدمة التي يرى أنها مجال للناشر والناقد؛ يصف فيها نُسخ الكتاب، ورموزها، والقواعد المعتمدة، واختلافات النسخ، كما يصف النشرات السابقة ومظهر النسخة ومضمونها؛ بذكر عدد أوراقها وأنواع الأرقام وطول صفحاتها، ووصف المضمون الذي يتضمن: اسم الكتاب، ومؤلفه، وأسماء أبوابه، وكيفية تنقيطه، وشكله، وحروفه، وخصائص النسخة، وما تنفرد به. بعد المقدمة، ينتقل لإعداد الفهارس وترتيبها؛ لأنها تفتح السبل إلى محتويات الكتاب ويكون ذلك بوضع كل أنواعها من فهرست الأعلام والأماكن ويرتب حسب الأسماء، ومن الفهارس التي يمكن وضعها فهارس الآيات القرآنية والشعر وأسماء المصادر والمراجع، ويرتب على أسماء الكتب أو المؤلفين، ومن أصناف الفهارس كذلك  فهرس المفردات والكلمات، ومنها فهارس كتب اللغة، وآخر عمل هو ترتيب هذه الفهارس، وأخيرا عرضه على النشر.
4)                خلاصة
             يظهر إذن أن منهج برجرستراسر في التحقيق منهج علمي عملي تطبيقي دقيق ومتكامل أكثر مما هو نظري، وتظهر هذه السمات في : 
- الاهتمام بتتبع محطات النقد والتحقيق؛ النسخ، النص، النشر النهائي.
- الاهتمام بالجزئيات (تصحيح الكلمات، الشكل، سقوط الأسطر...)
- حسن تقسيم المتون وتنظيمها، وتنظيم التهميش والإحالات...
- تصحيح أخطاء النساخ خارج النصوص باستعمال علامات الحصر واحترام كلام المؤلف.  
- دعوته إلى استخدام العلوم في ضبط درجات التقارب بين النسخ.
- وضوح منهجه المتجلي في المقارنة بين النسخ، والنصوص.
- الاهتمام بالفهرسة....
- الاستفادة مما  قدمه التراث العربي في التحقيق والنشر ومما قدمته الفيلولوجيا والمزج بينهما في منهج واحد.
                هكذا تظهر مجموعة من سمات منهج التحقيق لدى برجرستراسر، والتي يظهر من خلالها منهج التحقيق لدى المدرسة الاستشراقية الألمانية المتميز بالدقة والضبط، هذه المدرسة قدمت خدمات كثيرة للتراث العربي، كان أهمها حفظ عدد كبير من المخطوطات العربية من ضياع محتمل كان يمكن أن يحدث لها في البلاد العربية بسبب أوضاعها الاستعمارية والاجتماعية أنذاك، ثم تحقيقها وفهرستها وضبطها وإخراجها للقراء بعيدا عن الخلفيات الإيديولوجية التي كانت سندا للمدارس الأوربية الأخرى. 
المصدر:
جوتهلف برجرستراسر، أصول نقد النصوص ونشر الكتب، إعداد وتقديم محمد حمدي البكري، الطبعة الثانية،1995، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة.