السبت، 29 مايو 2021

اشتغال الدلالي والفني ورهانات التحول في رواية اللص والكلاب.

 

تقدم رواية "اللص والكلاب " لنجيب محفوظ رؤية نقدية لواقع للمجتمع المصري  بعد ثورة الضباط الأحرار1952، تشكلت مكوناتها بين الدلالي والفني؛

فدلاليا، تدور أحداث الرواية حول شخصية سعيد مهران الذي وجد نفسه، بعد خروجه من السجن إثر وشاية عليش به إلى الشرطة، في مواجهة مع أصدقاء الأمس الذين اختزنوا بنوازعهم كل بذور الفساد والقيم المرفوضة ثقافيا واجتماعيا وأخلاقيا (الظلم، الغدر، الخيانة، النفاق، زواج السلطة والإعلام....).

وفي رحلة مواجهة تجليات الفساد هذه، ظل الفشل قَدَرَ سعيد يلازمه كالظل؛ بدءا من لحظة الخروج من السجن وتعقيبا بالجرائم وختما بالمطاردة ثم الاستسلام على نحو جعل الأحداث متداخلة ومتشعبة قوامها الصراع المتقد بنار الغضب والرغبة في الانتقام إلى أن انتهت بشكل تراجيدي مأساوي، تجسد خلالها كل أشكال التردي الأخلاقي والقيمي والاجتماعي.

وبالرغم من ثراء مضامين الرواية ودلالاتها فإنها التقت في بؤرة توارى خلفها تنازع  القيم ممثلة في البطل سعيد مهران الحامل لمبادئ إيديولوجية ومثالية عجز عن تحقيقها (بطل إشكالي) ومحور الفساد المتجسد في شخصيات رؤوف علوان ونبوية وعليش، صراع انتهى بانتصار الأخير ولو مؤقتا، نهاية غير متوقعة كسرت أفق انتظارنا مشكلة رسالة نقدية تحمل تطلعات الكاتب، مؤداها حاجة الفعل الثوري إلى التخطيط والتنظيم وتجنب العواطف وإعمال العقل وانخراط الجميع، محمولات دلالية تؤسس مداخل ثقافية وسياسية واستراتيجية للتحول والتغيير، بها يستشرف المستقبل عبر شخصية سناء التي أثثت فضاء الرواية من بدايتها إلى نهايتها حضورا بجسمها وغيابا باسمها وتمثلات البطل حولها؛ إنها النور الساطع الذي سيزيل عتمات التاريخ وسيصحح مسار الثورة وأخطاء الماضي واختيارات الأجيال السابقة.

وفنيا، استند الكاتب في تقديم مادة الرواية إلى بناء فني محكم توزعت فيه الأحداث وفق نظام الفصول، معتمدا على تبئير قائم على الرؤية من الخلف، فظهر السارد عليما بكل تفاصيل المحكي؛ أحداثا وشخصيات وقوى فاعلة، تحكم في ما يصدر عنها من أفعال ورؤى ومشاعر ونوازع فعكس ذلك حسه الفني والإبداعي، وحول هذه القوى تحلقت كل عناصر السرد كالبناء الدرامي الذي انتظمت فيه الأحداث لا وفق ترتيبها المنطقي ولكن لاعتبارات فنية تجريبية متصلة بالتحول  عبر استهلال دينامي ووسط تَقوّم بأحداث استخدم فيها قوة الذاكرة وحضور الوعي والاسترجاعات والاستباقات ونهاية مأساوية، مع حوار استبطن المواقف الثابتة من خلال الجنيدي ونور وطرزان والمتغيرة عبر ورؤوف ونبوية وعليش وكلاهما متصل بالبطل توافقا أو تعارضا، هذا التباين جعل الأحداث تتطور وتنمو دراميا باستمرار، وهو ما جعل سعيد مهران نواة لكل طاقات الصراع المغذية والمحركة لأحداث الرواية.

ولقد اعتمد الكاتب في تسريد الأحداث على لغة واضحة إيحائية رامزة بطاقة تعبيرية وفنية هائلة مستمدة من القدرة على مزج اللغة الفصيحة والعامية بما يعكس لاتجانس المجتمع المصري؛ فنوع الحقول الدلالية، معجميا، تبعا لاختلاف مرجعيات كل شخصية وانتمائها الطبقي وميولاتها الثقافية، ووظف بنية تلفظية حضر فيها ضمير المخاطب بقوة انسجاما مع الطابع الانفعالي للبطل وتموجات النفس الغاضبة والثائرة، وأسلوبيا استخدم السرد والوصف والحوار بنوعيه الداخلي والخارجي؛ فضمن تنوع زوايا النظر؛ بالحضور منتجا ومشاركا في بناء الأحداث ومتلقيا، وتعدد الأصوات، متنقلا  بين أزمنة متنوعة؛ فلكيا (الليل، الصيف،...)، وسرديا (استرجاعات واستباقات...)، ونفسيا خاصة الذاتي(الانتظار، تساؤلات...)، وأمكنة مختلفة ودالة اتخذت أحياء القاهرة تخوما لمسارات الأحداث وفضاءها؛ كالبيوت والنيل والسجن والعمارات والمصاعد والمستشفى والملهى والمقبرة... فعكست بتحركات الشخصيات؛ عموديا وأفقيا ودائريا ولولبيا، والانغلاق، والضيق، كل أشكال المعاناة والمشقة واللاحرية والتفاوت الطبقي....

إن رواية "اللص والكلاب " شكلت تحولا جديدا في مسار الكتابة الإبداعية للكاتب والرواية العربية إجمالا، استشرف بها وعيا جديدا بالقضايا المصرية والعربية في علاقتها بواقع الأمة السياسي والاجتماعي والثقافي المتردي وما رافق هذه المرحلة من الاستعمار والنكبات والنكسات وفشل الاختيارات السياسية والفساد، مستندا إلى مداخل فنية جديدة تجد صداها المرجعي في الواقعية والرمزية والنفسية، وذلك في قالب فني تجريبي جديد خرج عن المسار الكلاسيكي تمثل مفاهيم تيار الوعي كالتذكر، والأحلام، وأحلام اليقظة، وخطاب الغيب، والحلم، والوعي، واللاوعي ... بشكل لم يكن معهودا قبل ستينيات القرن الماضي، أكسبها ذلك نجاحا عظيما ولعل ما يمنحها هذا البعد هو جملة من المواصفات الكامنة في:

-  القيمة التاريخية: فالرواية استلهمت جملة من المعطيات التاريخية والاجتماعية والسياسية والإيديولوجية السائدة في المجتمع المصري والعربي إجمالا في النصف الثاني من القرن الماضي، ووثقتها وعرت ما سادها من التردي القيمي والأخلاقي وانتشار الفساد والفقر والظلم....

-  القيمة الأدبية والفنية: الرواية باختياراتها اللغوية والأسلوبية وبنائها الدرامي والدلالي أيقونة فنية عابرة لحدود الزمان والمكان والفردانية والطبقية، أعادت صياغة الواقع المصري والعربي صياغة فنية تخيلية مؤثرة؛ فصورته لكل القراء على اختلاف أقطارهم وأزمنتهم تصويرا فنيا إبداعيا جعلت صداه يتردد في عالمهم ووعيهم؛ فقصة سعيد قصة كل عربي وصوته لا يمثل نفسه وإنما رَجْعٌ وصدى لتمثلات ملايين العرب؛ ماضيا وحاضرا، في مصر وخارجها.

-  القيمة التوعوية: انخرطت الرواية في قضايا المجتمع بدل الموضوعات القديمة السائدة من قبل، ولامست الوعي الجمعي الثقافي والسياسي بقضايا الإنسان العربي، ورامت إعادة تشكيله عبر بث مشاعر الإيمان بأن أزمة المجتمع العربي لن تجد الحلول في اختيارات سعيد؛ ففعل التغيير لا يكون بالانتقام والعاطفة والانفعال وادعاء الثقافة ولكن يتطلب تجاوز الفردانية والطبقية وحضور العقل والتنظيم والتخطيط والإرادة الجماعية والقيم العليا...

ولئن نجحت الرواية في تشخيص الواقع العربي ومشاكله وأزماته وتناقضاته؛ اجتماعيا وأخلاقيا وثقافيا وسياسيا وإيديولوجيا وتصويره فنيا وحددت معيقات وعي الإنسان العربي بالعالم والوجود فإن وصفتها العلاجية تطرح بما استبطنت من الأسئلة أكثر من الأجوبة المعلنة والمضمرة، ولعل أهمها أسئلة التحول ورهانات التغيير.

المصادر:

رواية اللص والكلاب، نجيب محفوظ، دار الشروق، 1998.