الأحد، 15 فبراير 2015

الترجمة والتأويل ولسانيات النص.

السعيد رشدي 
حققت الترجمة تطورا كبيرا بفضل ملازمتها الطويلة لتحولات الدراسات اللغوية وظهور لسانيات النص، هذه الملازمة أدت إلى تبادل فوائد كثيرة،  فراكمت عُدّة معرفية مهمة؛ موضوعا، ومنهجا، واصطلاحا، كما اكتسبت نقلة علمية قوية مكنتها من نقل الأفكار مجردة من لغتها الأم إلى أخرى بأقصى شروط الدقة والمطابقة والأمانة والوفاء. إن الترجمة علم موضوعه اللغة والنص، إنها قراءة وفهم وتأويل، فهي بذلك علم ينظر في كل الآليات التي تمكن المترجم من الترجمة بشروط منهجية خاصة؛ من هذه الشروط ما يقوم على المنهج في القراءة والفهم والتأويل، ومنها ما يقوم على شخص المترجم، ومنها ما يقوم على طبيعة النص. ولا يتم فعل الترجمة إلا بعد إدراك المترجم لمقصد الكاتب وإعطائه تأويلا، وإذا كان التأويل شكلا من أشكال الفهم، فإنه عملية ذهنية محورها المترجم بما له من قدرات علمية وإدراكية ولغوية وإبداعية. فما هو التأويل في الترجمة؟ وكيف يصير المترجم مؤولا؟ وما هي الضوابط النصية التي تحكم هذه العملية؟
                                    I.            مفهوم التأويل
يتأسس التأويل على الفهم، وهو عملية يقوم بها المؤول للكشف عن الدلالة الأصلية المتوارية خلف المكتوب المراد معالجته[1]، هذه العملية لا تتم إلا بـ " إعادة بناء المعنى وما يرتبط بذلك من إجراءات فك رموز الخطاب التي يلجأ إليها المخاطب"[2]، إن عملية التأويل عملية معقدة، تتدخل فيها عوامل عدة؛ موضوعية، وذاتية، وزمنية تاريخية، وإذا كان التأويل يتأسس على الفهم كما سبق أن قلنا، فإن الفهم يتأسس على دلالة النص في إطار كلي بعد أن يدخل في علاقات مع دلالات أجزائه، وعلى ضوء معناه الكلي تتخذ تلك الأجزاء وظائفها التوضيحية.
 بالإضافة إلى هذا البعد، تحيط بالتأويل أبعاد أخرى منها ذاتية المؤول؛  فتأويل النص المترجَم وإن تم إدراك معناه الكلي ومعانيه الجزئية الموضحة له، فإنه يحيل على اتصال بين ذاتين؛ ذات مؤلفة وذات مترجمة، ومسألة الذاتية هذه معروفة في العلوم الإنسانية والأدب، هذه العلاقة بين الذوات والنصوص منفتحة على الاختلاف، من هنا يصير التأويل الوسيلة الأولى لرأب الفرق وإحلال الاتفاق بينها وبين النصين المختلفين اللذين يلفان المعنى والقصد الواحد، إن تقليص الفوارق بين المقاصد الناتجة عن تعدد الذوات هو الهدف من التأويل، فيكون هذا الأخير بذلك الحلقة الأكثر أهمية في تشكيل المعنى المقصود والذي يسعى لتحقيقه المؤلف الأصلي، والذي يسعى المترجم لتحويله عبر الترجمة إلى نص مكافئ. بعد عاملي الكل في علاقته بأجزائه والذاتية في علاقتها بالموضوعية، ستقف عند العامل الزمني التاريخي.
 كل عملية تأويل تنطلق من تفكير المؤوِّل المترجِم للأفكار المتصورة مسبقا من طرف منشئ النص الأصلي، ومشروعية عمل المترجم تقوم على البحث عن هذا القصد وقيمته وأصله، وعلى هذه العملية يتأصل الفهم والتأويل السليمان والقادران على إنشاء النص المعادل معنى ومقصدا وجمالية، إن استعمالات اللغة وآليات كتابة النص والظروف المحيطة بالمؤلف زمن التأليف هي غيرها التي تحيط بزمن الفهم والتأويل والترجمة، من هنا فإن الوعي بالنصوص المختلفة من حيث زمن النشأة وزمن الترجمة يتطلب وعيا تاريخيا بالنص الأصل، كما تتطلب هذه المفارقة الزمنية استحضار الافتراضات الراهنة لزمن الترجمة.
يظهر إذن أن التأويل يتأسس على الفهم المؤطَّر بهذه العوامل الثلاثة؛ أي دلالة الكل في علاقته بدلالة الأجزاء على ضوء التفاعلات والعلاقات الحاصلة بين المكونين، ثم التأويل في علاقته باختلاف الذوات ودوره في رأب الفوارق والاختلاف وتأسيس المعنى، ثم تأصيل فهم النص على ضوء ظروف تكونه التاريخية، والمراحل التي مر منها، وتهييئ الافتراضات التي من شأنها النظر إليه بما نعرفه منه لحظة قراءته وترجمته لا بما نعرفه منه لحظة كتابته.
                                 II.            المترجم مؤولا
 كل مترجم هو مؤول بامتياز، فاتخاذ القرار واختيار الفهم والمعنى المقصودين من طرف مؤلف النص الأصل يعتبر أهم ما يكشف عن إبداعيته وفنيته، والمترجم لا يتم له ذلك إلا في ظل تحقق مجموعة من الشروط؛ من بينها الإلمام باللغتين والثقافتين المترجم منها والمترجم إليها، وهذا يتطلب ثقافة واسعة، ووحده ذلك يجعله قادرا على ممارسة فن التأويل، هذا الأخير هو الكفيل بنقل الأفكار من لغة إلى أخرى بعيدا عن الترجمة الحرفية أو تخمين المقاصد والتكهن بها، ومن الضروري للمترجم حال الترجمة أن يتقيد بمدلول العبارت المكتوبة وتجنب التفسير؛ إذ هذا الأخير هو مقدمة فقط لممارسة التأويل، إن ممارسة التأويل اختيار وقرار لا بد منه للمترجم إذا أراد أن يجعل من عمله إبداعا ومن نفسه فنانا حذقا ذا مهارات لا تقل أهمية عن باقي الفنانين.
إن كون المترجم مؤولا هو إحالة أيضا لعمله على التقاليد العلمية المتأصلة في التعامل مع النصوص المختلفة لغة أو الغامضة معنى، هذه الإحالة تجعل عمله منضبطا وخاضعا للقوانين والقواعد المنهجية الصارمة والضاربة في التاريخ، هذه القواعد ليست وليدة اليوم بل امتدت تاريخيا إلى بدايات التعامل مع النصوص الدينية في المسيحية؛ لما ترجم "الإنجيل" إلى اللغات الأوربية، وما نتج عن ذلك  من تطوير المناهج وظهور الهيرمنوطيقا.
ولم يرتبط التأويل في الترجمة بالبيئة الأوربية فقط بل كان حاضرا وبقوة أيضا في البيئة الإسلامية؛ سواء في فضاء الترجمة العربية التي حدثت في بيت الحكمة على عهد المأمون، أو في فضاء النص القرآني بما حمله "القرآن الكريم" من نصوص متشابهة. وعلى كل حال، فإن المترجم لا تأتيه الترجمة طوعا ولا كرها ما لم يتملك ناصية القراءة الثاقبة والفهم السليم والقدرة على ممارسة التأويل واتخاذ القرار.
                             III.            الترجمة والتأويل و النصية  
كان القدماء ينظرون إلى الترجمة عموما على أساس أنها عملية مطابقة بين الكلمات أو العبارات الأجنبية بما يعادلها في لغة أخرى، غير أن هذا الوضع تغير مع تقدم الدراسات اللغوية خاصة المقارنة التي أتت على الاختلافات البنيوية بين اللغات، فأدركوا أن هذه الاختلافات تحد من عمليات نقل المعنى. أما من حيث النصوص، فقد أدرك اللغويون القدماء خاصة العرب صعوبة نقل النصوص الأدبية، يقول الجاحظ:" والشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حول تقطع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه وسقط موضع التعجب... والكلام المنثور المبتدأ على ذلك أحسن وأوقع من المنثور الذي تحول من موزون الشعر... وقد نقلت كتب الهند، وترجمت حكم اليونان، وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنا، وبعضها ما انتقص شيئا، ولو حولت حكمة العرب، لبطل ذلك المُعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم"[3]، فيظهر من هذا النص الوعي الكبير الحاصل بتأثير طبيعة النص في الترجمة والتأويل.
  ولقد أدى تطور الدراسات اللسانية وانتقالها من الجملة إلى النص إلى تغير في المناهج، فالتعامل مع النص كبنية دالة وذات معنى واحد كلي يسمح بالنظر إليه لا بما يتحقق من مجموع جمله من المعاني ولكن بالنظر إلى ما يحققه معناه الكلي الذي يتعدى معاني مجموع جمله، هذه القفزة لم تكن لتتحقق لو لم تظهر الدراسات النصية على يد دوبوغراند وفان ديك وغيرهما، وأهميتها العلمية ،بالنسبة للمترجم، تكمن في جعله يدرك أهمية السيطرة على النص شكلا ومضمونا وتطويعه بما يجعله قادرا على إعادة إنتاج نص معادل في النصية؛ اتساقا وانسجاما. فيظهر من هذا أن هناك علاقة بين نصية نص المؤلف ونصية النص المترجم، علاقة تقوم على عدم قدرة أي منهما على الاستغناء عن الآخر؛ فالمترجم لا يستطيع نقل المعنى من لغة إلى أخرى وبنفس الشروط السابقة إلا إذا مر عبر القواعد والآليات التي تتحقق بها نصية النصوص تأليفا على المستوى العميق والسطحي، خاصة ما ارتبط بالمعنى والسياق وظروف نشأة الخطاب والأثر في المتلقي، وبالتالي فالمترجم، وهو يقوم بالترجمة، يسلك في عمله نفس مسار التأليف، ولا يستقيم أي تأويل ما لم تراعى تلك الأبعاد.
 هذا الاستعمال لمفاهيم اللسانيات واللسانيات النصية من حيث المنهج هو ضرورة أساسية في المناهج الحديثة للترجمة، دفعها إلى ذلك حاجتها إلى منهج علمي يؤدي إلى تأصيل المعنى، والتحكم في النص وإخضاعه والخروج من سلطته.
إن المترجم، وهو يقوم بعمله، لا يسعه إلا البحث عما يمكنه من النص، وضالته في ذلك تكمن في ما توفره لسانيات النص من آليتي الحبك والسبك تأليفا؛ فالحبك ينصرف إلى ما يحقق نصية النص على المستوى العميق، والسبك ينصرف إلى ما يحقق نصية النص على المستوى السطحي، اكتشاف هاتين الآليتين منح للمترجم مساحة مهمة للتأويل وإمكانياته باعتبار الوساطة التي يؤديها بين كاتب النص الأم وقارئ النص المترجم، فكل علاقة تواصلية بين هذين الطرفين لا تتم إلا عبره بما يوفره المترجم من فهم وتأويل للنص الأول.
 تساعد لسانيات النص على التأويل، فهي علم مؤهل منهجا وموضوعا واصطلاحا لوصف الآليات التي تتشكل بها نصية النصوص شكلا ومضمونا، ومن تلك الآليات تلقيا؛ مفهوما الاتساق والانسجام:
ü          مفهوم الاتساق: يتأسس على الآليات التي تحقق النصية في النص الأصلي على المستوى الخارجي، ويتم ذلك بالعناصر النحوية؛ كالضمائر والإحالات والتكرار والعطف.
ü          مفهوم الانسجام: يتأسس على الترابط المعنوي والدلالي الداخلي.
 فالنظر في هذين المستويين يمكنان المترجم من فهم المعنى وتأويله بما يفيده في البحث عن المعادِلات المناسبة والممكنة التي تقدمها اللغة الهدف، فيتم نقل تلك المعادلات؛ بشكل يضمن أكبر قدر من المطابقة الشكلية التركيبية والدلالية وهو ما يضمن نفس الأثر على المتلقي، وهذا يقتضي إدخال البعدين النفسي والاجتماعي في النقل، ومن المستحيل الوصول بالترجمة إلى هذا المستوى بغير الإبداعية في التأويل، فالتأويل يتحدد لدى المترجم بمدى قدرته على الوصول إلى آليات الاتساق والانسجام وسياق الموقف وإعادة بناء النص وفق  نفس الآليات.
 إن العملية التأويلية في الترجمة تؤطرها نصية النصوص الأصلية أو الناشئة بالترجمة، وكل انحراف عن هذه الضوابط سيوازيه انحراف آخر في الترجمة بما لا يخدم المطابقة والوفاء والتكافؤ الشكلي والمعنوي المفترض. 
المصادر والمراجع:  
1: هانز غادامير، فاسفة التأويل، ترجمة محمد شوقي الزين، ط 2 نشر 2006،  الدار العربية للعلوم، منشورات الاختلاف، الجزائر.
2: ربيعة العربي، في تصور الخطاب، آليات الإنتاج والتأويل، مؤتمر لسانيات النص وتحليل الخطاب، جامعة ابن زهر أكادير، ط1، 2013دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع، الأردن.
3: الجاحظ، الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، م 1، ط 3، 1965، مصر.






[1]: هانس غادامير، فاسفة التأويل، ترجمة محمد شوقي الزين، ط 2 نشر 2006،  الدار العربية للعلوم، منشورات الاختلاف، الجزائر، ص 34.
[2]  : ربيعة العربي، في تصور الخطاب، آليات الإنتاج والتأويل، مؤتمر لسانيات النص وتحليل الخطاب، جامعة ابن زهر أكادير، ط1، 2013دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع، الأردن، 104.
[3]: الجاحظ، الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، م 1، ط 3، 1965، مصر، ص: 74-75.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق