الخميس، 25 ديسمبر 2014

تحليل معلقة عمرو بن كلثوم على ضوء التفكيكية

السعيد رشدي
لعل معلقة عمرو بن كلثوم تمثل نموذجا حيا لقضايا الإنسان العربي في علاقته بالإبداع الشعري الجاهلي، إذ يبرز فيها تعالق مواضيع كثيرة؛ كالقيم والذات الفردية والجماعية وجدلية الثبات والتحول في علاقتها بالتجربة الإنسانية والزمن؛ بما يشكل نظرة كونية تترجم رؤية الإنسان العربي للعالم بقيمه المتعددة ومواقفه ومعتقداته وتشكيلات ذلك المختلفة، فكيف استطاعت هذه القصيدة منسجمة العبارة وواضحة المعنى ورشيقة الأسلوب أن تقدم هذه الرؤيا للعالم ؟ وكيف استطاعت أن تكون أفخر قصيدة نطقت بها العرب بروح جمعية ذابت فيها الذات الشاعرة ذوبانا مطلقا؟
لتناول هذه المعلقة بالتحليل لا بد من الوقوف على ظروفها والأشواط التي قطعها بناؤها الدلالي والفني.
ü    ظروف النص:
تعبر هذه المعلقة  عن الحرب بين قبيلتي بكر وتغلب التي دامت أربعين سنة، ولم تتعاقد القبيلتان على الصلح إلا بعد أن ألّف بينهما المنذر، وكان أن كلف، فيما بعد، ابنه عمرو بن هند جماعة من بكر وتغلب في بعض أموره، فافتُقد التغلبيون واتهم البكريون بالإيقاع بهم، ولما احتكموا إلى عمرو بن هند اقتضى سبعين رجلاً من البكريين كوثاق عنده[1]، فقبل البكريون، وفي يوم التقاضي، انتدبت تغلب للدفاع عنها سيّدها عمرو بن كلثوم، بينما انتدبت بكر أحد أشرافها النعمان بن هرم الذي طرده عمرو بن هند من حضرته، فقام عمرو بن كلثوم وأنشد قسماً من معلقته، ثم وقف الحارث بن حلّزة فرد عليه، واستمال الملك بدهائه، فحكم للبكريين. إلا أن تغلب كانت منيعة الجانب، حيث تواقع  الشاعر مع عمرو بن هند فقتله، فنظم هذه القصيدة على مرحلتين:  الأولى أثناء الاحتكام أمام الملك عمرو بن هند بين تغلب وبكر، والثانية  بعد الحادثة التي أودت بحياة الملك.
ü    معمارية النص:
-       على مستوى المعجم:
يعتبر المعجم المحرك الأساسي الضامن لاشتغال اللغة في النص الشعري، وذهب بعض المنظرين إلى أنه لا يمكن فصله عن التركيب[2] لأنه تقوم عليه  الجملة نحويا وبلاغيا، كما أن النظر إلى المعجم خارج السياق التركيبي بشقيه النحوي والبلاغي غير مناسب لتحصيل الدلالة لما في ذلك من العودة للمعنى الأساس للكلمة مفردة ومجردة من السياق، من هنا لا يستقيم تناول المعجم إلا في سياقه. وهذا سندنا في الوقوف على دلالة القصيدة والأفكار الواردة فيها انطلاقا من تقسيمها دلاليا إلى أشواط سنقف عليها بالتفصيل بعد تحديد الحقول المعجمية المهيمنة في النص: 
·        الحقل المعجمي الفخري:  من خلال بروز وتكرار مجموعة من الألفاظ وأهمها الضمائر خاصة "نحن" و"نا" الدالة على الجمع " إنا تورد ..."، بالإضافة إلى ألفاظ الفخر الكثيرة والدالة على مقصدية النص.
" نورد الرايات بيضا *** ونصدرهم حمرا قد روينا.إلخ
·        الحقل المعجمي الحربي: وهو كثير الورود خاصة في الوحدة الدلالية الرابعة والسادسة ومنه:" نطاعن، نضرب، السمر،سيوفنا، قناتنا...
·        الحقل المعجمي الاجتماعي والقيمي: منه الخمري والغزلي والقيمي، ويظهر في: (  الخمور، الكأس، المرأة، ذي اللبانة، اللحز الشحيح، مجرى الكأس اليمين، تركنا المنايا مقدرة، قفي قبل التفرق يا ظعينا، الصرم، شمطاء، بغاة ظالمينا وما ظلمنا،...)،
 وسنقف على المعجم التركيبي في بعض صوره في البناء الفني.
إن الوقوف على كيفية اشتغال الحقول المعجمية اللفظية والتركيبية دلاليا،  جعلنا نقف على مجموعة من الأفكار والتي ارتأينا تناولها في سياق أشواط النص الذي ارتآها الشاعر في بناء المعلقة، هكذا تم تقسيم النص إلى أشواط تبعا لانتقال الدلالة وحُددت كما يلي:
ü    أشواط النص:
·        الشوط الأول، يمتد من البيت: 1 إلى :10.
شرحه:
الأندرينا: من قرى الشام، مشعشعة: حال من أحوال الخمر، اللبانة: الحاجة، اللحز: الضيق الصدر، صبنت: صرفت، ما شر الثلاثة : لست شر أصحابي، الظعينة: المرأة.
 استهل الشاعر قصيدته بسياقين أساسيين؛ سياق المرأة (ألا هبي)، وسياق الخمر (خمور الأندرينا) واصفا إياها، ومتحدثا عما تتركه من آثار على شاربيها (ب 3،4،...) ومفتخرا باستسقائه منها، في ارتباط بالمرأة الساقية (ب1 ) وما يحمل ذلك من دلالات الفعل الأنثوي صاحب سلطة السقاية وسلطة اختيار المنحى التوزيعي للكأس، والتحكم فيه، مع خضوع الشاعر لذلك:
 صبنت الكأس عنا أم عمرو*** وكان الكأس مجراها اليمينا.
وما يشكل ذلك الدور من الأهمية في تجميع أجزاء القبيلة، والخضوع لها، وارتباط الانتشاء والمتعة والحياة بها.
·        الشوط الثاني، البيت:  11
شرحه:
يوم الكريهة: الحرب
 هذا البيت سيختم به الشاعر مقدمته النسوية/الخمرية بإقراره أن الموت حق حاصل بعد كل شيء،  قضاء وقدرا، وبالتالي فهو بنية استسلام سترافق الشاعر في جزء كبير من القصيدة، كما يعكس البيت تصورا اعتقاديا للمجتمع الجاهلي يجعل الموت/الاستسلام المقابل الطبيعي للحياة/التوتر، وهو ما يجعل منه وحدة مركزية لفهم الرؤية الكونية للشاعر والمترجمة لرؤية قبيلته والمجتمع الجاهلي إجمالا.  
·        الشوط الثالث، من البيت: 12 إلى البيت: 27.
شرحه:
الكاشح : الذي يضمر العداوة، عيطل: امرأة حرة، المأكمة: رأس الورك: السقب : الجمل الصغير، الشمطاء : البيضاء الشعر.
انتقل الشاعر في هذا الشوط إلى الوقوف عند المرأة في قيمتها المقابلة للتجميع أي التفريق رافضا إياه رفضا مطلقا تكرار (قفي)":
 قفي قبل التفرق يا ظعينا...
 قفي نسألك هل أحدثت صرما*** لوشك البين أم خنت الأمينا
          مذكرا بانتصاراته الحربية، ومفتخرا بها، رغبة في إقناع الظاعنة بالثبات والاستقرار على الحال،  فوصف ما تراءى له بصريا وحسيا من اكتمالها الجمالي الجسدي والأنثوي (من ب 17 إلى 23)  ، بواسطة تكرار (تريك) الفعل المتعدي الذي أخذت فيه الذات الشاعرة وضع المفعولية وأخذت فيه صاحبة السلطة وضع الفاعل، إن الشاعر يظهر رغبة جامحة في ثبات تجربة المتعة (المرأة الساقية)، ورفض التغيير والتحول القادم على يد (المرأة المُفَرِّقة)، والذي استسلم له بشكل تراجيدي مؤلم ارتبط في النهاية بالموت (التكرار الضمني للبيت 11 أو بنية الاستسلام)، الذي لم يجد بدا أمامه إلا الاستسلام للقدر، وترجم ذلك بقوله :
 فما وجدت كوجدي أم سقب*** أضلته فرجعت الحنينا، (الفراق في التجربة الحيوانية)
 ولا شمطاء لم يترك شقاها*** لها من تسعة إلا جنينا.(الفراق في التجربة الإنسانية)
 وهي بنية تَلازَمَ تَكَرُّرها كلما واجه الذات الأنثوية. هذا الاستسلام سيظهر بشكل نهائي في مشهد ظهور اليمامة وارتفاع قُراها قال:
 فأعرضت اليمامة واشمخرت*** كأسياف بأيدي مُصْلِتينا
ارتفاع اليمامة مقابل انخفاض مكان الشاعر، بدلالة النقيض.  
·        الشوط الرابع، من البيت: 27  إلى: 90.
شرحه:
أعرضت: ظهرت، غر : بيضاء، المحجر: الملتجئ، الصفون: الخيل التي تقوم على ثلاث قوائم، الثفال: الجلدة أو الخرقة، مرداة: صخرة، غشينا: دنا بعضنا من بعض، الأماعز: الأراضي الصلبة، مخاريق: أثياب مفتولة، خضبن: طلين، الإسناف: التقدم في الحرب، الرهوة: الجبل، العصبة بين العشرة والأربعين، ثبينا: جماعة، الحزون: ما غلظ من الأرض، تضعضعنا: تذللنا، قطينا: عبيدا، الأردل : المطرود، مقتوينا: خدم، الثقاف: الخشبة التي تقوم بها الرماح، الزبون: التي تضرب برجليها، خزازى : جبل، رفدنا: أعطينا، أراطى : اسم ماء، اليلب: الدرع، السابغة التامة من الدروع، دلاص اللينة، النجاد: حامل السيف.
يمكن اعتبار هذا الشوط بنية أساسية وأولية؛ دلاليا وزمنيا في بناء القصيدة، غير أن الإخراج النهائي لها تميز بنسقية مقصودة، فالانتشاء الذي بدأت به القصيدة (جو الخمر والمرأة الساقية)كان نتاجا  لانتصاره في الحرب بعد قتله لعمرو، وهو ما تم  تضمينه في هذا الشوط. غير أن الضرورة المنهجية جعلته يقدمها ليهيء المتلقي لواقعة عمرَو بن هند ومصيره، و/قبيلة بكر (المخاطب) وهو مؤشر مهم على صدق تجربة الوقوف على المقدمات الخمرية والنسيب وغيرها في الشعر الجاهلي، عكس ما حدث في القصيدة العربية بعد القرن الثاني الهجري.
إن هذا الشوط يقدم بنية خطابية واضحة المعالم؛ أطرافها: المخاطِب عمرو بن كلثوم/تغلب والمخاطَب عمرو بن هند/بكر والرسالة التحدي والحرب.
المخاطِب: مهمش، فرض عليه الخضوع، ذات جمعية" أنا الشاعرة و"نحن" الجمعية (تطيع بنا الوشاة، نكون لقيلكم فيها قتيلا، ترى أن نكون الأردلينا، متى كنا لأمك مقتوينا...)
الرسالة: رفض الخضوع والاستسلام، التحدي، الحرب، ويظهر في (لا تعجل (النهي)، أنظرنا(الأمر) نخبرك اليقينا، نصدرهن حمرا، تاريخ مليء بالعصيان، مليء بالانتصارات والمجد، نطاعن، نشق، نحز،الفخر بالتاريخ ورثنا مجد علقمة، ومهلهلا، وزهيرا،نحن ونحن ونحن...)
والمخاطَب  1: صاحب السلطة والحكم، ذات فردية، وصاحب اللايقين في تصور القضية، والجكم، (تُهَددنا، تريدنا أردلينو خدما، الازدراء...)
  المخاطَب  2: قبيلة بكر ( القوة المنافسة، العدو الساعي لإلغاء وجود تغلب) إليكم يا بني بكر ألم تعرفوا منا اليقينا، ألم تعلموا منا،...)
إن السياق التخاطبي المقدم أعلاه يظهر رغبة في التجاوز والتحدي والانتقال من الهامش إلى المركز الذي يحتله عمر بن هند، والذي جرده الشاعر من صفاته السيادية والمقامية، وما رماه به من صور الفردية المجردة عن الذات الجماعية(حدثت، قبلك، تطيع، ترى، أمك...) وغياب التصور في الحكم والمعرفة (اللايقين) ، ونفس الشيء بالنسبة لقبيلة بكر المرماة بعدم المعرفة واليقين، إنهما في نظر الشاعر على مرتبة واحدة من التصور، غير أن خطاب بكر تميز عن خطاب عمرو بن هند بصيغة المخاطب الجمعية، هذا الانتقال فرضته طبيعة المخاطب الجمعي واقتضاء المبارزة العادلة له لتحقيق الانتصار الذي لا يمكنه الوقوع إلا بوحدة القبيلة وانصهار "أنا" التي ظهرت مرة واحدة في (ورثت) الشاعرة في (نحن) القبلية، واعتماد سلطة السلاح والقوة البشرية والتجربة الحربية  وإراقة الدماء والشرعية التاريخية. هذا البناء المليء بسرد الانتصارات والتهديد والحرب شكل بنية توترية مؤخرة عن بنية الاستسلام المقدمة خدمة لاتساق التصور.  
·        الشوط الخامس: يمتد من البيت: 91إلى: 99.
شرحه:
الهوينى: المشي الرقيق، يقتن: يطعمن، القلون: جمع قلة وهي لعبة يلعب بها الصبيان.
يعود الشاعر في هذا الشوط إلى المرأة مرة أخرى، لتتكرر صورها وتتكرر معها صور الاستسلام وإن تغيرت وظائفها، هنا سيقف الشاعر على دور المرأة  الإيجابي بعد أن كان سلبيا عند المرأة المفرقة، فالمرأة في الحروب يشكل وجودها خلف المحاربين  بنية اتصالية  تشحن الهمم وتشجع على القتال خدمة للحياة ودرءا للهزيمة والسبي والموت، إن الشاعر يؤسس لكون بنية الاتصال التي تؤديها المرأة الساقية والمرأة المساندة في الحرب تهب الحياة، وتساند الضمير الجمعي "نحن"، وهذا لا يتحقق إلا بالضرب (ب99)، والإيفاء بالوعود المبنية على استلاب الفرسان وتصفيدهم بالحديد(ب 93 ).
·        الشوط  السادس: من:100إلى 118
شرحه
يدهدهون: يدحرجون، حزاورة: غلمان غلاظ أشداء، الأبطح: الأماكن المطمئنة من الأرض، الكحل : السنة الشديدة، البيض: السيوف، الجفون: الأغماد، سام: كلف، الخسف: الذل.
في هذا الشوط تتضح قيم المجتمع الجاهلي الإيجابية والسلبية (إنا العاصمون، أنا المهلكون، أنا الضاربون، أنا التاركون، نشرب صفوا يشرب غيرنا كدرا وطينا، نبطش، بغاة ظالمين، عدم تقبل الاستبداد (إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الذل فينا، ب 113 ) والرغبة في إزاحة الآخر المختلف يقول الشاعر: لنا الدنيا ومن أمسى عليها...
·        الشوط  السابع: 119 إذا بلغ الفطام...
يشكل هذا البيت وحدة دلالية عميقة تفيد الاعتراف بالقيم والآليات المجددة لبنى المجتمع، والقادرة على حمل لواء الدفاع والاستمرارية في الوجود والتي تحول المجتمع من صيغة الوجود بالفعل إلى الوجود بالقوة.
ü    الخصائص الفنية للمعلقة:
-       التصوير الفني: من خصائص الشعر الجاهلي عفوية الألفاظ والتراكيب، وصدق التجربة الشعرية، مع براعة التصوير الفني القائم على العفوية واللغة الراقية والرغبة في إخراج الصور من ذائرة الغموض إلى رحاب الوضوح الحسي، من غير نسيان البعد البياني القائم على الإقناع؛ من خلال التشبيهات والاستعارات والكنايات، هذه الخصاص ظهرت جلية في  المعلقة من خلال التراكيب اللغوية والبلاغية المعتمدة في التصوير الفني، خاصة في مقام وصف المعارك وشجاعة القبيلة وقهرها للخصوم، وهو تصوير يجعل المتلقي يتصور المشهد في ذهنه وكأنه ماثل أمامه فيزيده ذلك بيانا ورهبة واقتناعا، ويضيف هذا التصوير للمعلقة قيمة فنية تعلي من مكانتها وتنقذها من رتابة الوصف المباشر والعادي، مما يجعلها نصا شعريا راقيا . ومن مواطن البراعة في التصوير.. نذكر قوله، وهو من الاستعارة.
1:الاستعارة التصريحية:
يقول الشاعر:
متى ننقلْ إلى قوم رحانا *** يكونوا  في اللقاء لها طحينا
يكون ثفالها شرقي نجد ***    ولهوتها قضاعة أجمعينا
يصور هذان البيتان مشاهد المعركة ومايحل بالأعداء على أيدي شباب القبيلة من الفتك والتنكيل، وقد ساعد على بيان هذه الصورة استعارة الرحى للحرب، والطحين للقتلى في صورة فنية تصور ما يحل بالأعداء، هذه الصورة أحاطها الفعل الشرطي (ننقل) وجوابه الناسخ (يكون)، بدلالتهما على المضارعة، بأجواء الديمومة والاستمرارية في الزمن، هذان الفعلان أتى الأول فعل شرط مجزوم بمتى الشرطية، والثاني (يكونوا) فعل جواب الشرط مجزوم أيضا بحذف النون، واستعمال الشاعر لمتى الشرطية ربطت بين جواب الشرط وفعله في زمان واحد، وهو ما قدم صورة حركية إيقاعية في غاية الأهمية تفيد في الإشارة إلى قوة وعزيمة وشجاعة شباب القبيلة بما لا يترك مجالا للتردد والكسل؛ فلحظة النتيجة (الطحين) مرتبطة توا بنقل الرحى إليهم في لحظات متتابعة وبدون وجود فراغ زمني بين اللحظتين. وفي النص كثير من الصور الفنية الاستعارية غير هذا النموذج الذي استعمل فيه الشاعر التراكيب  البيانية،  وهو ما سنراه مع نموذج من صور التشبيه القائمة على علاقة المشابهة وصور الكناية القائمة على علاقة المقاربة.

2-االاستعارة المكنية: من نماذجها: قول الشاعر في البيت 29:
بأنا نورد الرايات بيضا ***ونصدرهن حمرا قد روينا
يقول الشاعر واصفا الرايات: «نصدرهن حُمْراً قد روينا»، فالحمرة هنا إشارة إلى الرايات الملطخة بالدماء، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن البيت قائم على استعارة مكنية؛ المشبه به فيها محذوف، وهو الإبل بدلالة "نورد" و:"قد روينا"؛ فالشاعر إذن شبه الرايات في البداية بالإبل حال ضمئها، وشبهها  بعد صدورها عنهم بالإبل بعد ارتوائها   فحال الإبل قبل الارتواء ليس هو حالها بعده، وهذا هو حال رايات أو أعلام الأعداء في الحرب؛ تأتي إليهم بيضاء وتعود إليهم ملطخة بالدماء، وهذه لفتة رائعة البيان والفنية، وما زادها حسنا معنويا ورود الطباق فيها بين: بيضا وحمرا ونورد ونصدر، واختتم  البيت قبل قافيته بـ:"قد" التحقيقة التي تدعم إقناعيته.
إن اختيار اللون الأبيض في البداية وتحوله إلى الأحمر في النهاية بفعل قوة قبيلة الشاعر في النص، هو إشارة إلى حضور ثنائية لونية هامة في الشعر والتراث العربيين، حضور أفاد تصوير المشهد في حركيته وإيقاعه؛ فالبياض يشير إلى الطهر والسلم والحب، والحمرة تشير إلى الموت والحرب، ثنائية أبى الشاعر إلا أن يحضرها لإبراز فعالية الذات في صنعهما، ولعل هذه من أكبر الإشارات التي تفيد شدة وجبروت وقوة القبيلة في ذهن الشاعر، ونجد هذه المعاني تتردد في الكثير من أبيات المعلقة:  
                ذراعي عيطل أدماء بكر                            هجان اللون لم تقرأ جنينا 
3:الكناية: تقوم الكناية على علاقة المقاربة، ويتم توظيفها شعريا لغايات جمالية وفنية وإقناعية، ومن نماذج توظيفها في المعلقة، قول ابن كلثوم: بسُمر من قنا الخطى لدن                ذوابل أو ببيض يختلينا.
يقول الشاعر: "بسمر"  كناية عن الرماح، وب"بيض" كناية عن السيوف، وكنى عن السيوف بالبيض لشرف  منزلتها لدى القبيلة، ويبرز هذا البيت الثنائية اللونية (الطباق) سمر وبيض، بهذه السمر والبيض تختلي قبيلة الشاعر فتشق الرؤوس  وتختلب الرقاب. 
3: التشبيه: ومنه قول الشاعر: كأن جماجم الأبطال فيها    وسوق بالأماعز يرتمينا

يقوم التشبيه على علاقة المشابهة دون درجة التمازج والحلول، الهدف منه إخراج المشبه من دائرة الغموض إلى دائرة الوضوح الحسي عبر إلحاقه بالمشبه به مع الحفاظ على مسافة بينهما يجسدها حرف التشبيه؛ فالمشبه ليس هو المشبه به تماما ولكنه شبه له، وقد استعمله الشاعر في القصيدة بشكل واضح، أبرز من خلاله الشاعر الرغبة الجامحة في توضيح الأشياء في صور حسية، ومنها البيت أعلاه الذي شبه فيه جماجم(رؤوس) الأبطال الشجعان وهي تسقط كما تسقط أحمال إبل في الأماكن الكثيرة الحجارة، إشارة إلى عظمة الحدث وقوة قومه3.   
وبالإضافة إلى هذه الصور البيانية فإن الجانب البنائي التركيبي مليء  بالأساليب اللغوية والبلاغية التي أضفت على النص ملمحا خاصا؛ ومنها نذكر على سبيل التمثيل:
1- الأسلوب الخبري
ويفيد سياق النص القائم على الفخر والوصف، وسرد صور الحرب، وعد المناقب وذكر  سيرة الأسلاف إلخ ، وهذا ما تفسر طغيان الأسلوب الخبري، ومن أمثلته: إنا نورد الرايات، بيضا*** ونصدرهم حمرا قد روينا
وسيد معشر قد توجوه ***بتاج الملك يحمي المحجرينا
2-الأسلوب الإنشائي:
        ويظهر في مجموعة من المشاهد المرتبطة بالسلطة، وقد وظفه الشاعر لإضفاء الحركية على الأحداث، وتنويع إيقاعات التدفق الدلالي، ويظهر ذلك في:
 3- أسلوب الأمر؛ كقوله:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا*** ولا تبقي خمور الأندرينا
قفي نسألك هل أحدثت صرما*** لوشك البين أم خنت الأمينا
ومن الأساليب الواردة في المعلقة :
4 -أسلوب التكرار: وهو أسلوب ذو بعد نفسي يرتبط بتعلق الشاعر ببعض المواقف، وهو ما يمنح للمتلقي إمكانيات النفاذ إلى دلالات النص؛ ويظهر التكرار في : "قفي قبل التفرق ..."ب12، "قفي نسألك ب13" .
5- الضمائر : لقد علا صوت القبيلة في النص وسيطر على المشاهد وغلب على إيقاع الحركات والأفعال، ولم يترك حيزا للذات الشاعره المبدعة من أجل الظهور، ذات ذابت في أتون الجماعة، وجسدتها في أبهى صور التعبير الشعري والأدبي؛ ناطقة باسم الجماعة، ومدافعة عنها وعن رؤيتها للعالم. ذوبان ظهر في التغييب الكلي للأنا، والحضور المطلق للنحن على كل مساحة القصيدة .
6-أسلوب التحذير : وهو يخدم سياق الحرب والفخر ويظهر في قول الشاعر:
"ألا لا يعلم" ...ب57 ، ألا لا يجهلن...ب58.
7-أسلوب الاستفهام الاستنكاري: يخدم كذلك سياق الحرب والفخر ويظهر في البيت: 59
بأي مشيئة عمرو بن هند *** نكون لقيلكم فيها قطينا. والبيت 47.
8- أسلوب التوكيد: وقد وظفه الشاعر لتأكيد معانيه ذات العلاقة بسياق الفخركما في البيت 60 في قوله: فإن قناتنا يا عمرو أعيت***على الأعداء قبلك أن تلينا.
كما يقوم البناء الشعري في المعلقة على الارتباط بين أبيات لمعلقة ويتم ذلك من خلال مجموعة من الأساليب كـ:
الشرط في البيت:50 و 51، يقول الشاعر  إذا ما عي بالإسناف....صدر البيت(50) نصبنا مثل رهوة... البيت (51).  كما تم الربط بحروف العطف كفي البيت: البيت 30 والبيت 31 وأيام ...وسيد...التعدية البيت 17 :تريك إذا دخلت...البيت 18: ذراعي عيطل...
إن تتبع المظاهر الأسلوبية والتركيبية والدلالية للمعلقة تبرز بوضوح عمق البناء اللغوي المعجمي التركيبي، والتركيبي الأسلوبي، والبلاغي للشاعر، وقد وظف كل هذه الطاقات لتكثيف الدلالة وإيصالها للمتلقي في صور فنية راقية، وقد ساهم البناء الإيقاعي الذي اختاره الشاعر لمعلقته  في إخراج تلك الصورة والذي تميزعلى مستو الإيقاع الخارجي  بـ ما يلي: 
1-الإيقاع الخارجي : يعكس إيقاع المعلقة  كل مكونات النفس الحماسي للشاعر وقبيلته معاً، فالمعلقة من أقصاها إلى أقصاها قدر تغلي وتضطرم من فرط الاحتفال بالأمجاد وذكر الحروب، وتكاد تتنفس قوة من وقع الألفاظ الضخمة الموظفة، وجو الحرب المندلع، ولقد اختار الشاعر للفخر بحماعته بحراً يساعد على السرد والتصوير ، وهو بحر الوافر التام:
مفاعلتن  مفاعلتن فعولن *** مفاعلتن مفاعلتن فعولن
وهو ما وفر  إمكانية  الفخر والوصف والسرد، والناظر في القافية يلفي انطلاقا إلى أعلى مثله حرف الخروج «الألف» وهو ما يوحي بالعلو والغلبة، وهكذا كان الإيقاع عاكسا لروح الحماسة والفخر، ومساعدا على إبراز التفوق في شكل مكون صوتي، أما القافية فهي متواترة (حركة بين سكونين) كل هذه المقومات  أضفت على المعلقة بعدا حركيا قويا خدم اتجاهها وهدفها.
 2 -الإيقاع الداخلي: ارتبط ببعض الظواهر البديعية والعروضية ك: الجناس : (نزلتم منزل)، التصريع البلاغي (أصبحينا، أندرينا، ومن البيت 105 إلى 109)، التكرار(الكأس، الكأس وإليكم إليكم، تكرار الصدر بأي مشيئة عمرو بن هند إلخ )، الطباق (الأريب#الجنون، التاركون #الآخذون الأيمنين#الأيسرين)...إلخ، كل هذه المكونات الإيقاعية، التي أتينا على نماذج منها فقط وليست للحصر، ساهمت في الارتباط الإيقاعي للمعلقة، كما شكلت خيطا ناظما ،لدلالتها ككل، أبعد عنها التفكك الموضوعي، ورفعتها إلى مستوى راق فنيا ودلاليا ولغويا، وهو ما جعلها محفوظة إلى أن وصلتنا كاملة ومحملة بكل خصائص القصيدة الفنية الجاهلية.
لقد نجحت المعلقة في تخليد ذكرى انتصار تغلب إلى الأبد، كما نجحت في نقل صورة المجتمع الجاهلي قيما وأخلاقا وعلاقات، ومنح ذلك صورة حقيقة عن الرؤيا التي يحملها المجتمع الجاهلي للقيم والكون،  كما قدمت أسلوبا وصورا بلاغية وفنية وبنى لغوية وتركيبية وإيقاعية استطاعت بجزالتها وتناسبها وقوة جرسها أن تضمن بها لنفسها الخلود في الكون الأدبي الشعري العربي.
المصادر والمراجع:
1: ديوان عمرو بن كلثوم، دراسة و تحقيق إميل بديع يعقوب، دار الكتاب العربي، ط 1، 1991.
2: محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري،ط 3، 1992، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب.
3: الزوزني، شرح المعلقات السبع، ص: 303



هناك 6 تعليقات:

  1. شكرا لكم جزيل الشكر المزيد إن شاء الله

    ردحذف
  2. جزاك الله خيرا وشكرا لكم والمزيد إنشاء الله

    ردحذف
  3. محتوى رائع ومفيد
    لك جزيل السكر والثناء

    ردحذف
  4. هل بامكانكم شرح معنى المعلقة ؟؟

    ردحذف
  5. هل يمكنكم تحليل معلقة الحارث بن حليزة

    ردحذف