الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

الصورة الفنية لدى الفلاسفة المسلمين.


رشدي السعيد
 تنبه الفلاسفة المسلمون للطبيعة التخييلية للشعر على غرار ما سُجل في الفلسفة اليونانية  لدى أفلاطون وأرسطو، رغم اختلاف وجهات نظرهما حولها، وكشفوا عن منظورهم لكيفية تشكل الصورة الشعرية في بعدها التخييلي، يقول جابر عصفور: لقد انتبه الفلاسفة المسلمون إلى الإثارة اللافتة التي تحدثها الصورة في المتلقي، واقترنت هذه الإثارة بنوع متميز من اللذة، والتفتوا نوعا ما إلى الصلة الوثيقة بين الصورة والشعر باعتبارها إحدى خصائصه النوعية التي تميزه عن غيره[1]، لذلك قاموا  بدراسة الآليات التي تساهم في تشكلها، وأضافوا إضافات نوعية لم يقف عندها اليونانيون، وخاصة في ما تعلق بالأقيسة المنطقية والوظيفة الاستدلالية للشعر، مما بوأهم مراتب أعلى من الشراح.
ولتبين هذه الجهود لا بد من تتبع الأشكال الذي انتقلت بها المفاهيم الشعرية الأرسطية إلى الفلسفة الإسلامية، وقد ارتأينا أولا تتبع بعض الملامح الأولى لتشكل المفاهيم الأرسطية لدى المترجمين؛ فمن خلال استقراء ترجمة متى بن يونس (328هـ) للآثار الأرسطية نخلص إلى أن هذا الأخير (متى بن يونس) قد تفهم الخصائص النوعية للشعر، فحاول فهم المحاكاة من خلال معرفته للمصطلح النقدي العربي "التشبيه" فقرنه بها، فساوى بين التراجيديا وصناعة المديح، والكوميديا والهجاء، وبما أن المحاكاة التي أصبحت جوهر الشعر وسيلة لتوقيع الائتلاف بين الصورة والواقع، فالتشبيه يمكن أن يؤدي معانيها، في هذا السياق أتت محاولات الكندي والفارابي. ومما يمكن قوله اختصارا: إن انتقال المفاهيم الأرسطية من الثقافة اليونانية إلى العربية لم يكن ميسرا بالنظر للفارق بين الثقافتين من جهة، ومن جهة أخرى إن أرسطوا كان بصدد التنظير للمسرح وليس الشعر في وقت إعتقد الفلاسفة المسلمون أن الأمر متعلق بالشعر، وهو ما أدى إلى إشكالية المصطلح والمفهوم معا، وهو ما سنعرضه في هذا المقال، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الأستاذ يوسف الإدريسي نبش في النقول الأولى للترجمات والملخصات المبكرة للفلسفة اليونانية، ووجد أن مصطلح التخييل مثلا بمفهوم (مادة الشعر وأداته الإبداعية) لم يرد في رسائل الكندي، ولكن ورد عند معاصريه أمثال: قسطا بن لوقا (300هـ)، وإسحاق بن حنين (298 هـ)، والذي يتبين من ترجمتهما لبعض عبارات أرسطو أن المصطلح ظل يتأرجح في مساره الدلالي والتداولي بين الخيال والتخييل، وهذا الترادف نابع من دلالتهما على قيام صورة شيء ما في الذهن بعد غيابه عن الحس"[2] .
هذا التداخل والترادف والاضطراب لا يدل على جهل المترجمين والشراح والفلاسفة بخصائص الشعر، بل يدل على استعمال بعض الإبدالات التي تؤدي معنى مفهوم التخييل دون تسميته بالمصطلح الدال عليه، ومثال ذلك: نصوص الكندي، حيث نجد  أنها تعطينا صورة واضحة عن " اضطراب المصطلح العربي و تشوش عليه في لحظة بداية تفاعل اللغة والفكر العربيين مع الخطاب الفلسفي اليوناني"[3]؛ إذ نجد الكندي مثلا كان مترددا بين تعريب المصطلح اليوناني phantasia ب" فنطاسيا" و تارة بترجمته ب " التوهم " وتارة ب " التخييل " مما يكشف عن الصعوبة التي اعترضت الفلاسفة المسلمين أثناء محاولاتهم نقل الفكر اليوناني إلى اللغة العربية التي لا يوجد فيها مرادفات للعديد من المفاهيم التي حاولوا ترجمتها، فمن النتائج الواضحة لعدم معرفة " متى بن يونس بالخصائص النوعية للشعرية اليونانية ومقوماتها الجمالية وسياقها قراءته لمصطلح "mimesis" الأرسطي أي " المحاكاة" "أو التمثيل"- الذي يعد العمود الفقري للنظرية الأرسطية بشكل خاص وللشعرية اليونانية بشكل أخص – في ضوء البلاغة العربية " إذ أفرغه من محتواه الدلالي والوظيفي الذي يعتبر الفن محاكاة لجوهر الطبيعة لا للأشياء، وتصوير للممكن والمحتمل من الأفعال والانفعالات والحوادث، فربطه مقابل ذلك بلفظ التشبيه "[4]، وهذا راجع إلى مخاض تكون المصطلح، إلا أنه سرعان ما بدأت تضيق فضفضته، ويأخذ مكانته كمفهوم مع الفارابي وابن سينا وابن رشد الذين قرنوه بالعوالم الجمالية للشعر بعد نقله من مجاله النفسي والطبي، فصار أداة تحليل شعرية الخطاب، ولقياس مداه الإبداعي وبيان خصائصه الفنية التي تتحقق بواسطتها تخييلية القصيدة.
ورغم ذلك، فإن الفلاسفة المسلمين أظهروا تلقيا وفهما للعملية الإبداعية الشعرية كما تصورتها الفلسفة اليونانية، بل تجاوزوها بإضافات نوعية هامة في دراسة الشعر، ويظهر هذا المستوى من التلقي والاستيعاب في تحليلهم ونظرتهم للصورة الشعرية، فقد اهتموا بها معتمدين على تصور أرسطو لمفهومي الخيال والمحاكاة في كونهما إعادة بناء وتشكيل تخيلي لعناصر العالم الخارجي، وتعبير عن وقعه على مخيلة الشاعر أثناء تشكيل هذا العالم في قصيدته من خلال صوره الشعرية، وبالتالي لاحظوا أن الصورة هي نتاج الفعل التخيلي الذي يمارسه ووسيلته في الوقت ذاته، فابتكار وإبداع عوالم جمالية مخالفة لما هو مألوف هو جوهر الشعر، من هنا اتجهوا إلى تحديد التصورات النظرية للشعر واستخلاص قوانينه الكلية، باستثمار الإرث الأرسطي في هذا المجال فدرسوا الشعر من ثلاث زوايا؛ بوصفه تخيلا (من زاوية الإبداع)،  وبوصفه محاكاة (من زاوية علاقة الفن الشعري بالواقع)، وبوصفه تخييليا (من زاوية المتلقي).[5] ومع أنه من غير الممكن التفريق بين الحدود الفاصلة بين هذه المصطلحات فإن ما يوحدها هو كون  العملية الإبداعية تصدر عن المتخيلة، هذه الأخيرة قوة نفسانية مدركة للأشياء. ودراسة المخيلة هي دراسة للآليات والعمليات الذهنية التي يتم بها إدراك الأشياء وتثبيتها في الأذهان، كما تنبهوا إلى أن المخيلة لا تقوم بوظائفها إلا بالاعتماد على مجموعة من القوى الإدراكية التي يمكن إجمالها في قوى إدراكية حسية وقوى إدراكية باطنية، ويتفقون على أن قوى الحس الظاهر تدرك المحسوسات بحسب وظيفة كل واحدة، غير أنها لا تُميز مضارها ومنافعها، ولا جميلها أو قبيحها كما يرى الكندي[6]، وما يميزها كذلك ارتباط الصورة لديها بطينتها، فهي بذلك لا تستثبت الصورة بعد زوال المحسوسات، ونفس الرأي يذهب إليه ابن سينا. أما بالنسبة لقوى الحس الباطنية  فقد اختلفوا فيها، وانقسموا إلى ثلاثة اتجاهات [7]:
الاتجاه الأول: يمثله الفارابي وابن سينا، ويرى انقسام هذه القوى إلى خمسة؛ الحس المشترك، المصورة، المتخيلة، الوهم، الحافظة.
الاتجاه الثاني: فيمثله الكندي الذي اكتفى بتقسيم هذه القوى إلى ثلاث؛ القوة الحسية والعقلية والمصورة.
الاتجاه الثالث: لم يلتزم بتحديد واضح؛ فأضافوا وحذفوا من هذه القوى؛ كابن رشد الذي قسمها إلى ثلاث: الحس المشترك، والمتخيلة، والذكر، سيرا على خطى ابن باجة.
وتكمن أهمية هذا التقسيم في إدراك التباين الحاصل بين الفلاسفة المسلمين حول موضوع التخيل أو الصورة والقوى الإدراكية وعددها تبعا لفهمهم للظاهرة، كما يستنتج منه خروج نسبي لفلاسفة المغرب عن اتجاه المشارقة.
غير أن هؤلاء الفلاسفة يتفقون جميعا على أن الدماغ يشكل مركز هذه القوى،  باستثناء الفارابي الذي جعل بعضا من هذه القوى في القلب.
ومما يستنتج أن الصورة تحصل انطلاقا من مجموعة من المراحل والمستويات حُددت في خمسة:
المستوى الأول، قوى الحس الخارجي[8](خارج النفس): على هذا المستوى تتشكل الصورة في مرحلتها الأولى؛ إذ يتم إدراكها في طينتها، وما يميز هذه القوة عدم قدرتها على الاحتفاظ بها بعد زوالها عنه، بالإضافة إلى عدم قدرتها على تقييمها (القبح، الجمال، الضرر، النفع).
المستوى الثاني، الحس المشترك[9]: تنتقل الصورة مباشرة إلى قوى الحس الباطنية وتبدأ من الحس المشترك، في هذا المستوى تتشكل الصورة في غيبة عن طينتها عكس ما كان عند قوى الحس الخارجية.
المستوى الثالث، المصورة أو الخيال[10]: في هذا المستوى يتم حفظ الصور التي استقبلها الحس المشترك، ولم تحصل هذه القوة على اتفاق كل الفلاسفة المسلمين بل نص عليها الفارابي وابن سينا فقط، أما ابن رشد فلم يجعلها مستقلة غير أنه يشاطرهما الرأي في كونها مركز حفظ الصور، والفرق بينها وبين الحس المشترك كون هذه الأخيرة غير قادرة على حفظ الصور.
المستوى الرابع، المتخيلة[11]: في هذه المرحلة تنتقل الصورة إلى المتخيلة ويسميها الكندي المصورة أو الفانتاسيا أو التخيل وأحيانا التوهم، وأهم وظائفها  هو استعادة صور الأشياء من الماضي، كما تقوم بتأليف وتركيب الصور أو فصلها بحسب الإرادة وعلى نحو جديد، ولا يقتصر دورها على صور المحسوسات بل كذلك المعاني المجردة، وإذا استعمل العقل هذه القوة سميت مفكرة وإذا استعملها الوهم سميت متخيلة، كما يحصل على مستوى هذه القوة  صدق التأليف أو كذبه، غير أن من طبيعتها المخالفة إذ لا تعيد تركيب الأشياء كما هو، غير أن ما يميزها هو عدم استقلالها عن الحواس، وكونها أكثر تجريدا وأكثر تحررا من قيود الواقع، وضع يمنحها إمكانية تركيب الأشكال كيفما شاءت.
المستوى الخامس، الوهم[12]: وهو قوة نفسانية لها قدرة قوية على تجريد الصور عن طينتها، كما تستطيع أن تنال المعاني التي لا تحتاج  في صورها الخارجية إلى مادة ولا إدراك بالحواس. ويرى ابن سينا أن هذه القوة هي المركبة بين الصورة والصورة، وبين الصورة والمعنى، وبين المعنى والمعنى"[13].
غير أن حكم هذه القوة تخيلي مقرون بالجزئية والحسية وليس حكما فصلا كالحكم العقلي.
المستوى السادس، الحافظة: [14]وهي خزانة الصور المدركة بالوهم والحافظة لما أدرك من الصور الشعرية المحسوسة وغير المحسوسة، واختلف الفلاسفة في تسميتها فابن سينا يذكرها بالقوة الحافظة أو الحافظة الذاكرة أو الذكر أو المتذكرة أو الذاكرة، وعلى هذا المستوى يكون عمل هذه القوى متكاملا ؛ فتعمل المتخيلة على استعادة الصور بمساعدة القوة الوهمية والحس المشترك؛ إذ تقوم القوة المتخيلة بتحريك الصور والمعاني الموجودة في الخيال فتلوح الصور في الحس المشترك والمعاني في الوهم، عندها يدرك الحس المشترك والوهم للصور والمعاني وهذا هو التذكر، فالتذكر إذن هو تمثل الصور المحفوظة.
خاتمة
هكذا وقف الفلاسفة المسلمون على قوى الإدراك المسؤولة عن تشكل الصورة وحفظها بعد تجردها عن مادتها، غير أن هذه القوى الإدراكية النفسية ليست جوهرية وتحتاج إلى العقلنة، وتتم هذه العملية بواسطة العقل ليشكل هذا الأخير ثالث مرحلة بعد القوى الحسية الظاهرة والباطنة، وكل قوة من هذه القوى تعتمد على ما قبلها، وتبقى القوة العقلية الأكثر تحكما، ويظهر أن المتخيلة الموضوعة في المرتبة الوسطى تباين العقل من جهة وتباين الحس من جهة أخرى، ولها قدرة كبيرة على ابتكار الصور وتأليفها وتذكرها واستعادتها مجردة أو محسوسة كل هذه القدرات مكنتها من الارتقاء عن مرتبة  الحس دون الوصول إلى مرتبة العقل، هذا الأخير هو الذي يصور المعاني في كليتها لا في مادتها كما هو حال المتخيلة والحسية، غير أن فهم الفلاسفة المسلمين لقوتها وسلطانها خاصة في الشعر جعلهم يخضعونها لرقابة العقل فهي غير عاقلة، وهذا نزوع منطقي وأخلاقي ينسجم والأخلاق الإسلامية الميالة لكبح الغرائز التي تثيرها حركة الصور في المتخيلة، ولم يكتف الفلاسفة المسلمون بجانب التخيل من حيث مستويات الإبداع  وتشكل الصورة وما يرتبط بذلك من الإلهام والفيض والوحي ومراحله المشكلة من الومضات والضبط الواعي  كما يرى ابن سينا[15] وغيره من الفلاسفة، بل اهتموا كذلك  بالتخييل  من حيث وظيفته وأثره في المتلقي وضبطوا سلطانه بسلطان القوة الناطقة، وجعلوه قائما على "ثلاثة أبعاد : بعد منطقي وبعد سيكولوجي، وبعد بلاغي صرف"[16] كما اهتموا كذلك به من زاوية المحاكاة، وجعلوا هذا الركن قوام العمل الشعري، فأدركوا أن الشاعر يعيد تشكيل الواقع من جديد بما يشابهه ويحقق الاستجابة النفسية المطلوب تحقيقها[17].
      هكذا ظهر العمق الكبير الذي تم به تلقي المفاهيم الشعرية الأرسطية وعلى رأسها الصورة من كل زواياها، تلق لم يكتف بترديد شروحات "فن الشعر" بل تم تكييفها بما يتناسب مع خصوصيات الثقافة العربية وخصوصيات المجتمع العربي الدينية والاجتماعية واللغوية، هذا وإن سجل نوع من الاضطراب على مستوى المصطلحات والمفاهيم فهذه نتيجة منطقية للتباين الحاصل بين المجتمعين تاريخيا وطبيعيا واجتماعيا، ولم يكتف الأمر بالتكييف فقط بل بالإضافات، فبوؤوا الشعر مكانة عالية وجعلوه قسما من أقسام المنطق، وهو ما لم يتحقق في البيئة اليونانية، بالإضافة إلى ذلك كان وعيهم لمفهوم المحاكاة أكثر شمولية من وعي اليونانيين يقول د مولاي يوسف الإدريسي:"يدل إقحامهم لمصطلح التخييل في شروحهم لكتاب الشعر على وعيهم أن مفهوم المحاكاة لا يقارب مختلف الجوانب الإبداعية والجمالية التي تسم العملية الشعرية وتحدد مستويات تشكلها واشتغالها".[18]
هذا العمق في الفهم والاستيعاب والتطوير انتقل إلى البلاغة والنقد في محطتين اثنتين شكلتا قفزتين إبستمولوجيتين في مجال البلاغة والنقد والأدب العربي من خلال عَلمين؛ أما الأول فهو عبد القاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز"، والثاني وهو الأكثر عمقا في مجال البلاغة والنقد مثله حازم القرطاجني في "منهاج البلغاء وسراج الأدباء". 




[1] - جابر عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب ، ط 3 ، المركز الثقافي العربي،1992، ص6 .
:، التخييل والشعر، حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية، ص55.[2]
[3]  - :، التخييل والشعر، حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية،، ص 53 .
[4]  - نفس المرجع، ص 64 .
نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين ، ص:10.[5]
:  نفس المرجع، ص 117.[6]
:  نفسه، ص 18.[7]
:نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين، ص 16.[8]
:نفس المرجع، ص 21.[9]
: نفسه، ص 26.[10]
:نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين ، ص29.[11]
 نفسه، ص 16.[12]
:نفسه ص 43.[13]
:نفسه،ص 45- 46.[14]
::نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين ، ص69.[15]
: :، التخييل والشعر، حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية،،ص 151.[16]
:، التخييل والشعر، حفريات في الفلسفة العربية الإسلامية،، ص68.[17]
: نفس المرجع ، ص 151.[18]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق