الأحد، 28 ديسمبر 2014

السرقات الشعرية في كتاب "الموازنة بين الطائيين" للآمدي.

إعداد:  رشدي السعيد
طرح "كتاب الموازنة بين الطائيين" للآمدي (370هـ) قضايا نقدية كثيرة، شكلت أهم ما تداوله النقد العربي القديم، ومن بينها السرقات الشعرية، وهو الموضوع الذي اخترناه ليكون محور هذه الورقة.
مفهوم السرقة: ذكر ابن منظور في لسان العرب: «سَرَقََ الشيء يسرِقه سَرَقا وسرِقا... وفي التنزيل (إن ابنك سُرِّقَ) واسترق السمع أي استرق مخفيا ويقال: هو يسارق النظر إليه إذا اهتبل غفلته لينظر إليه ... والسارق عند العرب من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس».[1]
فيظهر من التعريف أن مفهوم السرقة ينصرف إلى ما هو مادي، وما هو معنوي وفكري؛ فانتقل من السلوكات الاجتماعية المرتبطة بالتعاملات المادية إلى الدراسات الأدبية، ليشير إلى ما يأخذ الأديب عن أديب آخر من أدبه، من دون إذنه، فينسبه لنفسه محاكاة، أو اقتباسا، أو تضمينا، إلى غير ذلك من المصطلحات التي تلفه. وظاهرة السرقة الشعرية ظاهرة كونية عرفتها جل الآداب العالمية تحت مسميات مختلفة، ومن بينها الأدب العربي؛ فقد أشارت العديد من الدراسات القديمة والحديثة إلى ما حصل من سرقات الشعراء الجاهليين، ومنها ما أخذه طرفة بن العبد من امرئ القيس في قوله :
وقوفا بها صحبي علي مطيهم       يقولون لا تهلك أسى وتجلد.
فلم يغير طرفة سوى ضرب البيت :" تجلد" بعد أن قاله امرؤ القيس بـ "تجمل".[2]
وتميز ظهور موضوع السرقات الأدبية والشعرية في النقد القديم بكونه شكل مقدمة لقضايا نقدية كثيرة منها قضية الخصومات الأدبية بين القدامى والمحدثين، وأول كتاب وصل في موضوع السرقات الشعرية هو: كتاب "سرقات الكميت من القرآن وغيره" لابن كناسة المتوفى سنة (207 هـ)، تبعه ابن السِّكيت (240هـ) ب "سرقات الشعراء وما اتفقوا عليه"[3]، بعد ذلك توالت المؤلفات في هذا الموضوع الى أن ظهر مؤلفان كبيران في مجال النقد؛ منهجا، وموضوعا، وتحليلا، وتعليلا، وهما: "الوساطة بين المتنبي وخصومه" للجرجاني، و"الموازنة بين الطائيين" للآمدي في القرن الرابع.
إن منهج تناول موضوع السرقات الشعرية في كتاب الموازنة شكل خطوة نقدية مهمة في تاريخ النقد العربي، أدى فيه الجدل المثار بين أنصار "البحتري" تيار الثبات، وأنصار "أبي تمام" تيار التحول دور الباعث على تأليفه.[4]
فما هو المنهج الذي اتبعه الآمدي في تناوله لهذا الموضوع؟
كعادة الكثير من الكتب القديمة، فإنه يصعب ضبط المنهج المتبع في بسط وتناول قضاياها الفكرية، ورغم أن الآمدي استعرض في مقدمة كتابه المنهج المتبع في الموازنة بشكل عام، فإن ذلك لم يكن ليغني عن التوجه إلى المنهج المعتمد في تناول كل قضية من قضاياه الجزئية؛ إذ وجدنا أن المبادئ المؤطرة لمنهجه منثورة بين ثنايا الكتاب بشكل غير منظم، وتابع لما أملته طبيعة البحث وطريقة  تناول المواضيع التي تحيل كثيرا على طريقة الجاحظ .
وبالرجوع إلى موضوع السرقات وجدنا أن المعايير المعتمدة فيها انصرفت إلى ما يلي:
- المعيار الأول: بقوله:«إنما السّرق يكون في البديع الذي ليس للناس فيه اشتراك»[5]
- المعيار الثاني:السرقات في المعاني ليس من كبير مساوئ الشعراء وخاصة المتأخرين؛ لأنه كما قال :«باب ما يعرى منه أحد»[6].
- المعيار الثالث: اختلاف الغرض ينفي السرقة .
- المعيار الرابع: التقارب في بيئة الشاعرين يجعلهما متفقين في المعاني.[7]
- المعيار الخامس: كثرة محفوظ الشاعر يُؤدي إلى توارد نفس المعاني.[8]
إن المتمعن في هذه المعايير والنماذج التي أخرجها الآمدي من سرقات أبي تمام، والتي وصلت إلى حوالي 120 بيتا، وما أخرجه من سرقات البحتري والتي وصلت إلى حوالي 92 بيتا، والتعليلات التي قدمها للحكم بالسرقة من عدمها، يلاحظ أنه قدّم  موضوعا نقديا خصبا وواسعا للدراسة، سواء من حيث المنهج المتبع ومدى التزامه به، أو من حيث ما وقع فيه من غلبة الذوق الشخصي في الحكم كإشكال مازال يحيط بالنقد ومعظم العلوم الإنسانية إلى يومنا هذا.
ومما أخرجه الآمدي من سرقات أبي تمام والبحتري، مايلي:
- المثال الأول، قال أبو تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب     في حده الحد بين الجد واللعب.
قال الآمدي بأن البيت أخذه من قول الكميت الأكبر في قوله:
لا تكثروا فيه اللجاجَ فإنه     محا السيفُ ما قال ابن دارَةَ أجمعا.[9]
 إن المُطّلِعَ على القصيدة كلية وأسلوبها وظروفها الحقيقية لن يذهب إلى ما ذهب إليه الآمدي، رحمه الله؛ فالبيت قاله أبو تمام بمناسبة أمر المُنجّمين للمعتصم بعدم القدوم على فتح عموريه؛ لأن فتحها يرتبط بموسم العنب والتين في تقديراتهم، فَفَتحها المعتصم في غير ذلك التاريخ، فكذّب فتحُها بالسيف تخمين المنجمين في كتبهم. بالإضافة إلى ذلك، يلاحظ اختلاف الغرض في البيتين؛ فعند أبي تمام المدح، وعند الكميت الفخر بالقتل، وهو ما لا ينسجم والمعيار الثالث.
المثال الثاني، قال أبو تمام:
أبدلْتَ أرؤُسَهم يوم الكريهةِ من    قنا الظهور قنا الخطِّيِّ مدعما.[10]
ذكر الآمدي أن هذا البيت أخذه عن مسلم بن الوليد، فإذا كان مسلم ولد سنة  (208 هـ) وأبو تمام توفي سنة (231 هـ) فإن مسلما عاش معاصرا له 23 سنة ألم ينافي ذلك المعيارَ الرابع؟ أي العيش في نفس البيئة.
المثال الثالث: قال أبو تمام واصفا مغنية فارسية
ولم أفهم معانيها، ولكن    شجت كبدي، فلم أجهل شجاها.
ذكر الآمدي أنه أخذه عن الحسين بن الضحاك في قوله:
               وما أفهمُ ما يعني        مغَنّينا إذا غنى
             سوى أني من حبي       له أستحسنُ المعنى.[11]
إذا علمنا أن ابن الضحاك توفي في (250 هـ) وأبا تمام توفي في (231 هـ) فإن المنطقي أن يكون ابن الضحاك هو من أخذها عن أبي تمام ليس بمنطق العمر؛ لأن ابن الضحاك عمر أكثر من أبي تمام، ولكن بمنطق الذيوع والشهرة، وليس العكس.
ولم يعتبر الناقد المشترك من المعاني ضمن السرقات؛ لأن ذلك جرى على عادات الناس في تداولاتهم، وصحح لابن أبي طاهر بعض ما اعتبره سرقات البحتري.
المثال الرابع: قول البحتري وقد نسبها إليه أبو الضياء :
ما لشيء بشاشةُُ بعد شيء    كتلاقِِ مُواشك بعد بينِ.
وقال أبو تمام:
وليست فرحة الأوباتِ    إلا لموقوف على تَرَحِ الوداع
     والملاحظ اختلاف الغرضين، فقصر أبو تمام الفرح على من شجاه التوديع، وأراد البحتري ليس شيء من المسرة إذا جاء في أثر شيء ما كالتلاقي بعد التفرق. غير أن الآمدي اعتبر ذلك من سرقات البحتري.
استنتاج وقضايا:
إن دارس موضوع السرقات في كتاب الموازنة سيجد أن هذا الموضوع يحتاج إلى مزيد من البحث من زوايا مختلفة، وأهمها القضايا المرتبطة بالسرقة والتي من بينها:
1- ما يجب أن يكون من البحث في الناحية التاريخية؛ وذلك لإثبات الرواية. فهذا المجال لم ينل من الاهتمام ما ناله علم الحديث وعلم اللغة وأصولهما من الدقة في نسب الأخبار والمتون الشعرية.
2- فضل الآمدي الأكثر تمسكا بعمود الشعر، وظهر ذلك في طريقة بنائه لمنهجه في الموازنة ومعاييرها؛ فالمتمعن في تعليلاتها ومنهجها سيجد ميلا واضحا لجهة البحتري وإن ادعى الحياد؛ ومتصفح فهرس الكتاب سيجد كل المواضيع المطروحة للموازنة تدخل في  صلب عمود الشعر ونهج القصيدة القديمة، ولما كان البحتري أكثر قربا من تلك الاعتبارات في نظره، كان شعره أقرب إلى نفسه، غير أنه انخدع لكون شعر أبي تمام أقرب كذلك إلى العمود، وهو ما يجعل الفرق بينهما في الدرجة لا في النوع كما ذكر الأستاذ عبد القادر حمدي، وهذا ما جعل هذه الموازنة محاكمة إيديولوجية وانعكاسا للتصورات الأدبية والسياسية الاجتماعية السائدة، كما جعلت موضوع السرقات الشعرية وعمود الشعر ونهج القصيدة القديمة وسيلة للحماية الأدبية،"systeme de blocage"من كل عوامل التغيير؛ فالمدخل الأدبي من مداخل البناء السياسي والإيديولوجي للمجتمع .
-إن اعتماد الآمدي في السرقات على فصل المعاني عن الألفاظ تارة أو العكس تارة أخرى في تخريجاته، وأحكامه، فيه من الملاحظات الشيء الكثير، ومن أهمها أنه فصل ما لا ينفصل، واعتمد على قضية اللفظ والمعنى،  ولو قدر لهذه المحاولة الهامة أن تأتي بعد عبد القاهر الجرجاني ونظريته في النظم، وما سيضفيه التناول الأسلوبي لها ما كانت لتسير في هذا المسار.
-إن اعتماد معياري عمود الشعر ونهج القصيدة أثر على الشعراء، وضيق من مجال تصرفهم وتناولهم للغة الشعرية والمعاني، وهو ما أدى إلى نمذجة الإبداع وإعاقة الخيال.
- لم يستطع الآمدي أن يخرج من عباءة الإنسان العربي القديم الذي ظل وفيا لنظرته التجزيئية للكون الطبيعي واللغوي؛ فتعامله مع أبيات شعرية مجزأة عن جسمها الطبيعي وسياقها اللغوي والمقامي جعل الموازنة وموضوع السرقات يأخذ مسارا مختلفا ، وهو ما يحيل على محاولات أم جندب النقدية القديمة.
- أظهر تناول موضوع السرقات مسألة الانسجام بين الصيغ التوفيقية الكفيلة بربط الأحكام بالتعليل أو العكس عند الآمدي، وهو ما يجعل القارئ يرى عدم انسجام المعايير المبثوثة في متن الكتاب وإسناد السرقات؛ فمن جهة، يصرح بأن تلك المعايير لا تؤثر في إسناد السرق، ومن جهة أخرى يقوم بإسناد فعل السرق في المتن تحت مسمى الأخذ تأدبا.
-لم يكن أبو تمام بعيدا عن عمود الشعر بالشكل الذي تصوره الآمدي، وهو ما يجعله ينخدع باحتيالات البحتري الشعرية؛ فكلاهما مولعان بالصنعة كما قال ابن رشيق في باب المطبوع والمصنوع من الشعر في "العمدة".  
- موضوع السرقات الشعرية أبعد مما تصوره النقاد العرب الأقدمون، فهذه الظاهرة تعكس صراع القديم الثابت مع الحديث المتجدد في إطار المحاكاة، واختلاف الرؤية للعالم. وفي جانبها الإجرائي،  تعكس تحاور النصوص أو ما يسمى "التناص"، ولا يمكن لأي إنتاج أدبي أن يحصل بعيدا عنه، مما يجعل منه مادة مفتوحة على مزيد من البحث؛ خاصة إذا تم تحويله من قضية سجالية محكومة بمنطق الترافض إلى قضية مثمرة محكومة بمنطق الترافد وذلك على ضوء ما وصلت إليه اللسانيات الحديثة وعلم النفس،كما تفتح الباب على ما هو أكثر من هذا؛ وخاصة السرقات النقدية والبلاغية.








1: ابن منظور، لسان العرب، تحقيق عبد الله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي، دار المعارف - القاهرة، مادة: [س.ر.ق].

: محمد مصطفى هدارة، مشكلة السرقات في النقد الأدبي ، مكتبة الأنجلو المصرية،1958 ، ص 6.[2]
:نفس المرجع،ص 77.[3]
:الآمدي، الموازنة بين الطائيين،تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد،1944،ص10.[4]
: نفسه، ص 50،ص 313. [5]
: نفسه، ص: 124  و 273 . [6]
:نفسه، ص50.[7]
:نفسه،ص 52.[8]
:نفسه ص 53.[9]
:نفسه ص 73.[10]
:نفسه ص 77
[11]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق