الجمعة، 9 يناير 2015

لسانيات النص وأرضية التأسيس، قديما وحديثا.

 السعيد رشدي 
شهد القرن العشرون ثورة في الدراسات اللغوية؛ إذ تعاقبت النظريات العلمية وتباينت اتجاهاتها، غير أن هذا التعاقب والتباين والتعدد لم يحدث من فراغ؛ فتاريخ العلم والأفكار يشهدان أن كل النظريات العلمية تخرج من رحم التراكمات المعرفية والعلمية السابقة، في هذا السياق التاريخي أتت ولادة لسانيات النص من رحم اللسانيات لتكون جوابا عن أسئلة أخرى تم إغفالها في اللسانيات الجملية، فما هي الأرضية التاريخية التي أدت إلى تأسيسها في الغرب؟ وكيف انتقلت إلى الدراسات اللغوية العربية؟ وكيف تم تلقيها في البيئة العربية بالنظر للتراكمات المعرفية التي أنتجها الدرس اللغوي التراثي العربي؛ نحوا وبلاغة ونقدا ؟
                             I.            لسانيات النص في الغرب، عودة إلى الجذور الأولى:   
يشكل التركيب الاصطلاحي الإضافي "لسانيات النص" مدخلا لتناول أصول هذا العلم المضاف إلى اللسانيات والمنسوب إليها وجوديا، وتأسيس اللسانيات كما هو معروف يرجع لدوسوسير (1857-1913)، غير أن تشكلات هذا العلم بدوره يرجع إلى ما كان من ممارسات تنظيرية قديمة تميزت في عمومياتها بالاشتغال بالنحو أساسا في اللغتين اللاتينية والجرمانية على السواء، ومن أقدم الدراسات التي وصلت في هذا الإطار دراسات دانتي[1] (1265-1321)، وما ميزها هو اشتغالها بالجانب التاريخي، ثم تطور الدرس النحوي ليظهر علم الفيلولوجيا أي فقه اللغة، وعلى ضوءه تم اكتشاف التقارب بين السنسكرتية واللغات الجرمانية واليونانية واللاتينية، ثم بعده فقه اللغة المقارن، والذي غلب على هذه الدراسات جملة هو تاريخيتها، وفي القرن التاسع عشر حدث تطور كبير  بالانتقال مما هو تاريخي إلى ما هو وصفي، غير أن هذه الدراسات لم تستطع رسم حدود علم اللغة،  كما لم تستطع صياغة شروط ممارسته منهجيا بالشكل الذي تقتضيه الدراسة العلمية بمفهوم العلوم الحقة، إلى أن أتت محاولة "دوسوسير"؛ حيث حُدد موضوعها في دراسة اللغة في ذاتها ولذاتها، انطلاقا من صياغتها بواسطة ما سماه  بـ"وجهة نظر"، أما من ناحية المنهج فهذا الموضوع اقتضى منه تحديد المدونة الكلامية التي يرام الاشتغال بها corpus كموضوع،  محددا مجموعة من الآليات المنهجية؛ كالمنهجين التعاقبي والتزامني... إلخ، واستمرت الدراسات اللسانية بعد هذه المرحلة في سياقات أخرى على ضوء ما لوحظ على اللسانيات البنيوية من انشغالها بالجملة الأدبية الراقية وإهمالها للمدونة الكلامية العامية والنصوص، وهو ما تنبه له تلميذه "بالي" في فرنسا و"يلمسليف" في "كوبنهاكن" و"هاريس" في الولايات المتحدة، منبهين إلى أهمية الاهتمام بلسانيات النص في مقابل لسانيات اللسان، لقد شكلت هذه الآراء أولى الوشائج التي شكلت المرحلة الأولى.
المرحلة الأولى[2]: بدأت مع هاريس وسعت لتجسير العلاقة بين اللسانيات البنيوية ولسانيات النص، تُوجت هذه الفترة بمؤلف "هاريس" تحت عنوان "تحليل الخطاب" "Discourse Analysis" سنة 1952، اهتم فيه بالعناصر التي تحقق نصية النص والروابط والسياق الاجتماعي، غير أن هذه الدراسات والآراء لم تستطع وضع أسس وقواعد لهذا الاتجاه الجديد في اللسانيات، وهو ما حتم انتظار مرحلة ثانية.
المرحلة الثانية: ابتدأت بدراسات جديدة من أهمها إصداران مهمان كان أولهما مع "هايدولف" في ألمانيا وثانيهما "هاليداي ورقية حسن" بكتابهما " the Cohesion in English " في بريطانيا، ومن مميزات هذه المرحلة اعتبار النص متتالية من الجمل، وهو ما سيفسح الأفق لاستغلال اللسانيات البنيوية الخاصة بالجملة خاصة النظرية التحويلية التوليدية لتشومسكي، وأهم هذه القواعد ثنائيات القدرة والإنجاز، البنيتان العميقة والسطحية... إلخ،  وفي هذه المرحلة كذلك تم وضع جملة من القواعد الإجرائية التي تمكن من دراسة النصوص، غير أن اعتماد النظرية التوليدية التحويلية سرعان ما أظهر عجزا في تحليل النصوص، والسبب في ذلك إقصاء اللسانيات الجملية للجانب الدلالي والمعجمي والتواصلي واهتمامها فقط بالجانب التركيبي وآليات توليد الجمل للوصول إلى الملكة اللغوية، وهو ما حتم الدخول في مرحلة ثالثة.
المرحلة الثالثة: بدأت مع مطلع السبعينات، اتجه فيها البحث نحو نظريات بديلة، وأبرز علمائها: "دريسلر" و"دوبوكراند" و"فان ديك"، انفتحت في هذه المرحلة لسانيات النص على الدراسات الأدبية والعلوم الإنسانية مستغلة ما تراكم من الدراسات اللسانية التوليدية والخطابية.
لقد شكلت هذه المراحل البدايات الحقيقية لتشكل لسانيات النص، غير أن البحث في هذا الموضوع مازال في بداياته، ولم يستقل تماما عن لسانيات الجملة بل ظل تابعا لها؛ فلسانيات الجملة مازالت نواة له ومصطلحاته ومنهجيته مازالت مرتبطة بها، وبالإضافة إلى هذه الإشكاليات هناك عقبات إجرائية تتعلق بالنصية في علاقتها بالخطاب؛ فلازالت إشكالية الثنائية خطاب/ نص تلقي بظلالها على هذا العلم، وهو ما يجعله يظهر بمسميات مختلفة؛ تارة بعلم النص وتارة تحليل الخطاب، وتارة بلسانيات النص، ومن مشكلاته أيضا مشكل الصورنة.... في المقابل، تظل اللسانيات النصية منفتحة بموضوعها الذي يشكل مجالا منفلتا عن اللسانيات الجملية، كما ستظل حاضرة بالبعد التداولي والتواصلي والاجتماعي الذي ينبني عليه النص، وهو ما يفتح أفقا كبيرا أمامها خاصة إذا استطاعت  ملء التخوم التي مازالت ننفلت عن اللسانيات الجملية.
                          II.            لسانيات النص في الثقافة العربية    
                من العبث إسقاط أو ربط الفكر اللساني الحديث بالتراث اللغوي العربي القديم، فكل قراءة في هذا الاتجاه تحتمل الكثير من المنزلقات الفكرية والمنهجية، وإن أي محاولة في ذلك يحمل من الخطورة الشيء الكثير ما لم تتم في إطار مشروع علمي له من العدة المعرفية والعلمية ما يجعله قادرا على مواجهة هذا الموضوع، ومن الدراسات في هذه القضية نذكر دراسة أحمد المتوكل في كتابه :" «تأملات في نظرية المعنى في الفكر اللغوي العربي»، غير أن هذا لا يمنعنا من البحث في التراث عما نحن بصدده ليس في سياق اللسانيات ولكن في سياق يقوده السؤال التالي: هل استشعر علماء اللغة العرب القدامى بالظاهرة النصية وهم يشتغلون بالدرس اللغوي نحوا ونقدا وبلاغة؟   الجواب هو: نعم، وقبل تناول هذا الموضوع أود أن أوضح أن مصطلح النص حاضر  في التراث اللغوي بمعناه المعاصر، وارتبط لغويا بمفهوم البروز والظهور والرفع، ومنه سميت المنصة منصة لأنها تبرز ما ومن فيها، كما ارتبط أيضا بمفهوم النسج والنسيج texte بالشكل الموجود في الغرب ونصوص الجاحظ شاهدة على هذا، غير أن أكثر من اهتم بالنصية في الدرس التراثي هم الأصوليون الذين اعتبروا الكلام الإلهي والنبوي نصوصا باعتبار الكتابة، والاشتغال على النصوص القرآنية لغة وبلاغة وتفسيرا أدى إلى ظهور علم التناسب، والواقع أن البحث في هذا الموضوع وإعادة قراءته بالشروط العلمية الحديثة قد يلقي الضوء على الفهم المتقدم لعلماء المسلمين للظاهرة النصية، وأحيل هنا على بعض ما كتب في هذا الموضوع، ومنه: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" للبقاعي، يقول  نقلا عن الزركشي نقلا عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام:" المناسبة علم حسن لكن يُشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع لأسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث فضلا عن أحسنه"[3] وليس البقاعي المؤلف الوحيد في هذا العلم، بل إن الذين تحدثوا عن علم التناسب كثر منهم الحرالِّي المغربي في كتابه " مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل" والفخر الرازي وغيرهم، أما في الجانب البلاغي فقد شكلت مباحث الفصل والوصل جزءا من البحث في النصية، كما شكل العطف والبدل والتكرار والضمائر والروابط مباحث نحوية تسير في هذا الاتجاه.  وفي الدراسات الحديثة، ظهر البديع  كمجال خصب للاشتغال بالمفاهيم الحديثة للسانيات النص. صحيح، إن التصور القديم في جانب للبديع لم يتجاوز عتبة التحسين، لكن هذا لم يكن ينفي عنه دوره في تحقيق الحبك والسبك في النصوص بالشكل الذي يتم الحديث عنه في لسانيات النص، قضية البديع هذه ودوره في تشكل لحمة النص لم تطفو إلى ساحة البحث إلا مع انتقال المفاهيم الحديثة لعلم النص إلى الساحة الأدبية العربية، خاصة ما جاء من أفكار في كتاب "the cohesion in english  " لهاليداي ورقية حسن في بحثهما لموضوع التماسك خاصة مفهومي السبك والحبك، لقد استفاد البحث العربي من هذه الأبحاث فظهرت مؤلفات كثيرة في المشرق والمغرب، غير أن المغرب كان سباقا وأكثر تميزا بفضل الترجمة من اللغة الفرنسية؛ فأدى ذلك إلى ظهور مؤلفات ذات بعد نظري وتطبيقي منها "لسانيات النص، مدخل لانسجام الخطاب" لمحمد خطابي حاول فيه تأصيل هذا العلم في التراث الإسلامي وتحليل مباحثه، ومن المؤلفات التطبيقية لهذا العلم نجد "تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناص" لمحمد مفتاح، وفي المشرق ظهرت مؤلفات مهمة في هذا السياق منها مؤلف سعيد بحيري "علم لغة النص المفاهيم والاتجاهات"، صلاح فضل "بلاغة الخطاب وعلم النص"، وجميل عبد المجيد "كتاب البديع بين البلاغة واللسانيات النصية" وسعد مصلوح "نحو أجرومية للنص الشعري" وكتاب " من نحو الجملة إلى نحو النص"غيرها.
خاتمة: إن أهم ما يمكن استنتاجه من هذا البحث هو أن أرضية تأسيس علم لسانيات النص لم تكن منفصلة عن علوم اللغة القديمة والحديثة، بل تشكلت بمنطق الترافد انطلاقا من الصلة التي تربطها باللسانيات والنحو والبلاغة، والكثير من المباحث مازالت مشتركة بينها وبين اللسانيات وباقي علوم اللغة، والعلاقة بينها يحكمها منطق التعاون، فاللسانيات النصية تستفيد من الأدوات النحوية والبلاغية كما تستفيد من اللسانيات الجملية.
المصادر والمراجع:
1: البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة.
2: ، مؤتمر لسانيات النص وتحليل الخطاب، جامعة ابن زهر أكادير، ط1،  2013 دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع، الأردن.
3: ر، ه، وربنز، موجز تاريخ علم اللغة،  سلسلة عالم المعرفة،  ترجمة أحمد عوض، عدد نونبر، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، 1997.






[1]: ر، ه، وربنز، موجز تاريخ علم اللغة، سلسلة عالم المعرفة، ترجمة أحمد عوض، عدد نونبر 1997، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، ص 238.
: رشيد عمران، مسار التحول من لسانيات الجملة إلى لسانيات النص، مؤتمر لسانيات النص وتحليل الخطاب، جامعة ابن زهر أكادير، ط1، 2013دار كنوز المعرفة العلمية للنشر والتوزيع، الأردن، ص379.[2]
: البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، الجزء الأول، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة، ص 7. [3]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق