الخميس، 1 يناير 2015

مناهج التحقيق عند المستشرقين، جوتهلف برجرستراسر نموذجا.

إعداد:  رشدي السعيد
 I.    
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يرمي هذا المقال إلى التعرف على نموذج من مناهج التحقيق عند المستشرقين وخاصة المدرسة الألمانية، وتكمن أهمية هذا الاختيار في كونه يكشف عن خلفية علمية وثقافية مختلفة، وكونه اختيارا علميا تطبيقيا أكثر مما هو نظري،  وقد وقع اختيارنا على المستشرق الألماني جوتهلف برجرستراسر انطلاقا من انتمائه إلى المدرسة الألمانية في الاستشراق، والتي تميزت أعمالها بحياد علمي يشهد به الكثير من الدارسين مقارنة بالمدارس الأخرى كالفرنسية والإيطالية، وغيرها. أما ما تميز به الكاتب فهو مشواره الطويل في تدريس هذا العلم، واحتكاكه بالمخطوطات العربية، وتأثيره في العديد من المحققين العرب الذين قدموا خدمات سديدة للتراث العربي.
                           II.            صاحب الكتاب: هو المستشرق الألماني جوتهلف برجرستراسر، ولد في 5 أبريل 1886 في ضواحي بلاون بسكسونيا، درس في المدارس الحكومية، وتعلم العديد من اللغات منها العربية والعبرية بالإضافة إلى اللغات الأوربية، التحق بجامعة لايبزغ في 1904، وتعرف فيها على المستشرق "فيشر"؛ حيث نال في نفس الجامعة شهادة تدريس اللغات والتاريخ الإسلامي. وفي 1912، نال شهادة تدريس اللغات السامية، ألف كتبا كثيرة، ونشر العديد من المخطوطات، وسافر في البلاد العربية وتعلم لهجاتها. في الموسم الدراسي 1929/ 1930، استقدمته الجامعة المصرية لإلقاء محاضرات في التطور النحوي للغة العربية،  ونقد النصوص ونشر الكتب، توفي سنة 1932.
تقسيمات الكتاب
مقدمة  تطرق الكاتب فيها إلى بدايات نقد النصوص القديمة التي كانت بداية من القرن 15، وكانت هذه البدايات في أوربا نابعة من أهمية إحياء الآداب القديمة اليونانية واللاتينية، ولم يكن الباحثون عن النسخ الأخرى للمخطوطات يستهدفون مقابلتها ببعضها، ولم يكونوا كذلك يصححون إلا أخطاءها البسيطة، لكن مع بدايات علم الآداب القديمة "phililogie" جمع الباحثون النسخ، وانتقوا الأهم منها، إلا أن هذه الاجتهادات كانت نظرية فقط؛ لافتقارها للقواعد، هذه الظروف أدت إلى نشوء التأليف في نقد النصوص. بعد ذلك، قام المستشرقون بحمل هذه الأصول واستعمالها في نصوص الآداب العربية، وكان برجرستراسر أول من ألف ونشر في هذا الفن عام 1931.
تتبع الكاتب عملية نشر المخطوط من بدايتها إلى نهايتها؛ انطلاقا من ثلاث محطات تبتدئ بنُسخ المخطوط، ثانيا النصوص، ثالثا العرض على النشر، ممثلا لكل مرحلة بنماذج.
1)  القسم الأول
ü    النسخ الخطية: يرى الكاتب أن النسخ الخطية تتفاوت حسب قيمتها؛ فمنها ما لا قيمة لها في التصحيح، ومنها ما يعول عليه ويوثق منه، وتقدير قيمة النسخ يتبع المعايير التالية:
- أن تكون كاملة، وواضحة، وقديمة، ودخلت في مقابلات مع بعضها البعض، إلا أن هذه القواعد ليست ثابتة؛ حيث من الكتب ما اعتمد في نسختها على نسخة واحدة، إذا تعذرت المقابلة فيها بين النسخ لضعف المتوفر منها، أو فيها نقص أو سوء ترتيب؛ في هذه الحال يتم بناء النشر على نسخة واحدة وحديثة، ولا يتم استعمال القديمة، كما هو حال " اللمع في التصوف" لأبي نصر عبد الله بن يحيى السراج، نشره نيكلسون في ليدن 1914، وكذلك كتاب "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" لموفق الدين السعدي الخزرجي، فيظهر أن أقدمية النسخة ليس مبررا وحيدا لتفضيلها، فيُحتاج لمعلومات أخرى لإثبات التفضيل، ومن ذلك معرفة كاتب النسخة الذي من الأفضل أن يكون هو مؤلفها، كما يجب ملاحظة الفروق بين المسودات والمبيضات من النسخ، والمسودة أقرب إلى الأصل من المبيضة، وإن كانت المبيضة هي التي تكون في غاية الكمال كما أراده لها المؤلف، ومن أمثلة هذه الحالة "الوافي بالوفيات" للصفدي.
بعد هذا، تستمد النسخ أهميتها من نقلتها الثقة والطلبة الذين ينقلون عن المؤلفين سماعا أو استملاء أو استنساخا على شرط تصحيحهم، وعدم إجازتهم الكتب إلا بعد قراءتها عليهم كلها. وما ميز الكُتاب المسلمين إشارتهم إلى أماكن تواجد النسخ المكتوبة بخط مشاهير المؤلفين في أماكن بعينها، وتقدير المخطوطات المكتوبة بخط المؤلف كان ميزة علماء العرب مقارنة مع علماء الغرب، وفي ضوء هذا تتشكل تراتبية العالم والطالب والناسخ، ومن ميزة النساخ في هذه التراتبية عدم فهمهم لما يكتبون بسبب التسرع في الكتابة من أجل الكسب، مما يؤدي إلى كثرة التحريف والتصحيف الذي يعتبر شرا في اللغة العربية مقارنة مع اللاتينية لاتصال الحروف في اللغة العربية .
أما ما يتعلق بالنسخة فإن الناسخ عادة ما يؤشر على تاريخ النسخ والمخطوط المستنسخ منه، غير أن كثيرا ما يتم ذكر تاريخ النسخ الأول ولا يتم ذكر تاريخ النسخ الثاني، والثالث، إما سهوا أو رغبة في الترويج، مما يؤدي إلى التضليل، إلا أن الناقد يجب أن يتنبه إلى الإسناد في أولها، فيكون ذلك سندا لمعرفة تقارب النسخ، وأصولها.
ولقد أتى برجرستراسر بمجموعة من الأمثلة؛ حيث تم اعتماد النسخة الثانية بدل الأولى، ومن هذه الأمثلة كتاب "الوزراء" لأبي الحسن بن إبراهيم الصابي الكاتب؛ حيث وُجد للكتاب نسختان؛ الثانية مأخوذة من الأولى، غير أن الأولى كانت كاملة عند استنساخ الثانية، ثم نقص أولها وآخرها، فكان الأساس في الكتاب النسخة الثانية، ليصل في النهاية إلى أن تحقيق أصل النُّسخ له شأن كبير .
إذا كانت النسخ تحمل دلائل ظاهرة على النسبة الحاصلة بينها، فإن هناك كذلك دلائل باطنة، ويلتجئ إليها الناقد عند عدم تحصل الدلائل الظاهرة، وأهمها: الإخلال، والتقديم والتأخير ثم الأخطاء، ومن أمثلة ذلك سقوط الأوراق؛ فيتم النسخ من النسخة المبعثرة كفي ديوان "قيس بن الخطيم"، وقد تسقط الأسطر سهوا مثال: "آثار البلدان" لزكرياء القزويني 682هـ، وتكون الأخطاء دليلا لبيان النسخة الأصلية  مثال "آثار البلدان" حيث بين الخطأ النسخة الأصل، وقد تتفق النسخ في الخطأ كبيرا أو صغيرا، هنا يجب التنبيه للخطوط،  وقد تجد نسخة مكتوبة من أصلين كما هو شأن "الفهرست" لابن النديم؛ فقسم مأخوذ من نسخة الإستانة، والقسم الثاني مأخوذ من مكتبة "شهيد علي باشا"، كما نجد أحيانا نسخة مصححة على نسخة من غير التي نسخت منها كما هو حال " المجموع في الفقه" للإمام زيد بن علي.
ü    الإبرازات:  (الطبعات) تبرز الطبعات تباعا حسب رغبة المؤلف تصحيحا أو توسيعا للمضمون أو إضافة لملحقات، ويحدث هذا عادة أثناء الإذن بنسخه أو إملائه على الطلبة أو إهدائه، وقد يحدث الإبراز بعد موت المؤلف، ومن واجب الناشر اختيار إبراز أو طبعة واحدة للكتاب، وعدم المزج. والإبراز الذي يستحسن طبعه ما كان من المؤلف نفسه، أو التي تلتها مباشرة بعد وفاته، وتؤثر المسهبة على المختصرة، والمصححة على المختلة، والتي تكون منتشرة على الناذرة، وإذا خالف الناشر ذلك  وجب عليه الإخبار؛ ومن ذلك " رسالة حنين بن إسحاق" 262هـ التي خضعت لإبرازات متعددة  من طرف كاتبها في 241 هـ ثم 249هـ ، والإبرازات في كتب الفقه والحديث أكثر في غيرها، أما في كتب اللغة فموجود ومن أمثلته كتاب " الإبل" للأصمعي له روايتان؛ الرواية الثانية تحتوي على ما لا تحتويه الأولى، ونشر على الرواية الثانية، ونبه المؤلف إلى إمكانية وقوع الإبرازات حتى في الشعر الذي وصل شفويا، وخاصة الشعر الجاهلي الذي سجل فارق قرنين أو أكثر بين الرواية الأولى وتدوينه الذي حصل في عهد الأصمعي، وهو ما جعل المؤلف يفتح بابا على قضية النحل التي تبناها طه حسين لاحقا، وقد بين المؤلف بعض أسباب ذلك في اشتهار بعض القصائد الطويلة ببعض الأبيات القليلة التي تدور على ألسنة الناس ثم ينسى قائلها وتنسب إلى غيره، كما يحدث تزوير، وإسقاط الأبيات التي يرى عدم صحتها؛ ومن أمثلة اختلاف الروايات الخاصة بشعر الأعشى؛ إذ وصل منه ديوانان؛ الأول يحتوي على خمس عشرة قصيدة، والثاني أكثر من ذلك؛ مما يعني أن الأولى أسقطت من الثانية الشيء الكثير، هنا طرح الكاتب السؤال: هل الشعر الجاهلي حق؟ أم مزور كله؟ ولقد لحقت هذه القضية حتى الشعر الأموي، ليقف على أن المقيد في النسخة قد يكون بعيدا عن الأصل، مما يطرح السؤال: ما هي وظيفة الناشر؟
ü  وظيفة الناشر أو الناقد: يحدد الكاتب وظيفة الناشر في الحرص على الرجوع إلى الأصل رغم صعوبة الحصول عليه من الإبرازات عبر مقابلتها ببعضها البعض، وعدم مزجها. هذه هي الطريقة الوحيدة للوقوف على الأصل والحقيقة، أو للوقوف على ما هو أقرب إليها على الأقل من دون استخدام الحدس والتخمين والإتيان بما يوجد خارج الديوان، كما يجوز انتقاد الروايات، لكن لا يجوز التدخل فيها، ولإفراز الروايات وضح الكاتب بعض الطرق  كالروايات الثانوية، ووقوع بعض الأخطاء النحوية من الناسخ ....والروايات الثانوية يقصد بها ما هو مروي في متون الكتب الأخرى، ويؤدي إليها اختلاف الروايات، أما نسخة الكتاب فهي رواية أولية، والرواية الثانوية أنواع:
ü    الشروح: والشرح يتضمن النسخة الأولية مع إبراز لها، ويقوم الشارح عادة بتهذيب المتن أولا ويصحح ما يراه خطأ.
ü  الترجمة: حيث يتم ترجمة الكتاب من لسان إلى آخر، فتتضمن الترجمة النص الأصلي وبجانبه ترجمته، ومن أمثلة ذلك "تاريخ الطبري" المترجم إلى الفارسية.
ü    الاقتباس: ومثاله "إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب" لياقوت الحموي 626هـ فأكثر مادته موجودة في الكتب التي اقتبس منها ياقوت مادته، ولأن النسخ قليلة فقد قارن الناشر بينها وبين النسخ المقتبس منها، وكذلك التي ألفت بعده، وكذلك "بغية الوعاة" للسيوطي، وعلى الناقد الاحتراس من إمكانية أن يكون الكاتب حافظا للنصوص دون أن يكون ناقلا من الكتب السابقة، هنا لا يجب التصحيح أو التغيير، وإلا سيكون الناقد قد أدخل في الكتاب ما ليس منه. ومن وجوه الاقتباس اقتباس الشعر، ويرجح فيه الرواية الأولية على الثانوية، ولا يستعان بالثانوية لتصحيح الأولية إلا إذا وجد اضطراب في الاستنساخ، وما يعد كذلك من الروايات الثانوية كل مرجع يستدل به على صحة الأصل، والتي يجب على الناقد جمعها واستعمالها بحذر زائد خاصة مع إشكاليات النقط والحروف والشكل الذي لم يكن في النصوص الأولى،  وإنما كان من فعل النساخ من بعد، والنقط أكثر حاجة للحجة من الشكل؛ لأن الشكل كان قديما بينما النقط مستحدث، فإذا كان المؤلَّف قديما كان النقط زيادة من النساخ، وإذا كان حديثا فإن النقط يكون من المؤلف لا من الناسخ؛ ومثال ذلك نقط ديوان "عمر بن أبي ربيعة" الذي كان من الناسخ، ووقوع بعض الأخطاء النحوية فيه كان من الناسخ كذلك.
ولمعرفة النسبة الحاصلة بين النسخ يقوم الناشر بترتيبها على قسمين عام وجزئي:
عام: يعتمد الحكم فيه على قيمة الرواية بأجناسها في علاقتها بأقدمها؛ بمعنى أنه يتم التحقق مثلا من أن النسخة "أ" أكبر قيمة من النسخة" ب" و"ج" حيث نجد في "أ" مثلا:" قال أبو بكر بن عمر الحصاف " غير أننا نجد في "ب" و"ج" "عمرو" مكان "عمر" في هذه الحالة تكون "ب" و"ج" أصح من "أ" لأنه لو كانت "أ"  هي الصحيحة لقلنا أن كاتبي "ج" و "ب" أخطآ، علما أنهما مستقلان عن بعضهما البعض، ووقوعهما في الخطأ معا ضعيف الاحتمال.
2)  القسم الثاني: النصوص
          وقد ألحقه الكاتب لأن نقد النُّسخ لا يعنى بتهذيب نص الكتاب من جهتين:
أولا: لأنه لا يمكن ترتيب النسبة بين النسخ، وأن الترتيب ليس قطعيا، ولا تتضح به النسبة الحاصلة بينها.
ثانيا: أن التحقق من الرواية الأصلية عن طريق الترتيب يؤدي إلى عدم الحاجة إلى اختيار بعض القراءات دون البعض، وهل هي صحيحة أم غير صحيحة. والنقد وسيلة لاختيار القراءة الصحيحة، ولا يتأسس النقد إلا بعد الفهم الذي تقر به الشروح، والشروح كثيرا ما تخطئ؛ لذلك وجب نقد الشروح، ومن أمثلة ذلك شرح الشارح لبيت من رجز العجاج "عشي ربيع واقصري في من قصر" فقرأها الشارح عَشي، أما الناقد  "نولدكه" فيراها عُشي أي الزمي عشك! وعَشي بفتح العين من عشى الإبل أي رعاها ليلا، وهذا ينافي سياق البيت الذي يشبه فيه الشاعر بني تميم بالعصافير. وفهم النصوص يستقيم بأمرين: معرفة موضوع الكتاب، ومعرفة اللغة والأسلوب، ويؤكد الكاتب أن "علم الأشياء والأسماء" مفيد في معرفة موضوعات النصوص وإصلاح خطأ الشراح، ومن الأشياء التي تدلل النص أمام الناقد رأي المؤلف وغرضه من الكتاب وفصوله؛ لأنا نستعين بذلك على نقد ما يخالف ذلك، فإذا خالفت النصوص ما ينويه المؤلف أمكن نقدها وإصلاحها، وهذه أهم المنافذ لإصلاح المتون، البرهان والأسباب المرجحة لإيجاد الوهم والتخيل، ومن الوسائل التي توصل لمعرفة النصوص كذلك معرفة اللغة والأسلوب.
ü  معرفة اللغة والأسلوب: يشترط الكاتب لفهم النص معرفة الأشياء قبل الأسماء ثم معرفة اللغة والأسلوب، فكان واجبا على الناشر معرفة اللغة العربية والإحاطة بها، وعدم تغيير ما صعب الإحاطة به إلا إذا ثبت أن عدم الفهم يرجع إلى النسخ، هنا يمكن ملاحظة الفرق بين النسخ انطلاقا من اللغة والأسلوب، فيمكن بذلك نقد النصوص انطلاقا من هذا المعيار، ومن أمثلة ذلك كتاب:" الرد على الزنديق اللعين ابن المقفع" لترجمان الدين الحسن الطباطبا الرسي، فغير الناشر عبارة "ذي الأمثال العلي" ب "ذو الأمثال العلا" بخلاف كل النسخ. ولا يجوز الاكتفاء بمعرفة اللغة فقط بل لابد من معرفة أسلوب الكتاب ولغته كذلك، هنا يمكن له إصلاحه، ويتركز هذا الإصلاح على ما هو ظاهري فقط كالحروف والنقط والشكل.
ü  التنقيط: يحتاج التنقيط إلى كل وسائل النقد والتصحيح؛ فالثقة في النقط أقل من الحروف، والتصحيف أخطر من التحريف، ودراسة لغة وأسلوب المؤلف يعين على إصلاح التصحيف والتحريف؛ ومن أمثلة ذلك في كتاب "الرد على ابن المقفع": "وليس أنهما (أي النور والظلمة) هما الأصلان دليل واضح به يثبتان أكثر من تحكم العماة في الدعوى والاعتساف منهم فيها للغشوى) وشرح الشارح الغشوى بالغشاء الذي على العيون، أما الناقد فاقترح للغشوى العشواء، والعشواء هي الناقة التي لا تبصر، ولم يتنبه الشارح والناقد إلى ما يوجد عند المؤلف مما يوازي ذلك الكلام؛ فقد ذكر المؤلف نفسه في مكان آخر" وهل ينكر أن نور الشمس يدرك ذلك منها بالحس معشاة لبعض العيون"؛ أي تعمى، فيظهر أن العين هي الصحيحة، ومما نبه إليه الكاتب أن وقوع خطأين في كلمة واحدة  أبعد من احتمال وقوع خطأ واحد، ونفس الشيء في الشعر.
ü  التفليق: ويقصد به عطف ضدين على بعضهما؛ ومن أمثلته في كتاب ابن المقفع " ما بين الخواص من العرب والعوام" بمعنى كلهم، ومن شرطه التضاد، وقد جاء في الكتاب الفعل والعبث وهما ليسا متضادين، فلا يمكن اعتبارهما تفليقا معبرا عن العدم، لذلك وجب ترك العبث وقراءتها عينا، فيكون معنى الجملة أن النور ليس له فعل ولا عين، وما يؤكد هذه القراءة السجع المرافق للجمل، فوجب اعتبار ما حل بالعبث هنا تصحيفا. ومما يجب الانتباه إليه في نقد النصوص سقوط ضمائر المضارع؛ إذ لا تنقط ضمائر المضارع في الكتب القديمة، ونقطها النساخ، وارتكبوا أخطاء فيما يخص اللفظ أحيانا وفيما يخص اللفظ والمعنى أحيانا أخرى، ومن الأول: التردد بين المذكر والمؤنث وياء المفرد الغائب وتاء المفردة الغائبة إذا سبق فاعل يجوز معه المعنى الواحد، هنا لا بد من الرجوع إلى أسلوب المؤلف وطريقة استعماله للضمائر.
أما الثاني: فهو يغير المعنى أو تركيب الجملة لتغير النقط، ومثال ذلك من الرد على ابن المقفع :( قيل فالحرارة عندكم يا هؤلاء من شأنها الإحراق  وقد ترى الناظر يديم النظر إلى شروق الشمس فلا يحرق ناظره)، وهذا في نظر الكاتب غير صحيح،  والصحيح هو إبدال تاء "ترى" بنون المضارعة لتصير "نرى".
ü  إصلاح الشكل: ومثاله من نفس الكتاب " وإن به لطائفا من لمم الشيطان ومسه " واللمم مس خفيف من الجنون، والقراءة الصحيحة: "وإن كان عندنا لحمقه وضعفه لمما لا أحسب بأحد حاجة إلى كشفه". غير أن الشكل أقل إشكالا من التنقيط؛ لأنه ليس جزءا من النص بل هو زيادة كالشروح، فيجوز للقارئ أن يغيره إذا كان خطأ.
ü  أخطاء النساخ: ذكر الكاتب أن لا نقد إلا بالفهم الحاصل من السياق والعبارة، وذلك لفهم النص من جهة المؤلف، ومن جهة الناسخ،  وأثر ذلك في النسخ،  ويخضع النص لتغيير الناسخ من وجهين تعمدي أو اتفاقي أو كليهما في آن واحد؛ فالأخطاء التعمدية تكون عادة بالزيادة بغرض شرح المتن وقد يكون التغيير بالتصحيح، وأنواع التغييرات الاتفاقية كثيرة مقارنة بالتغييرات غير المتعمدة، وترتبط كثيرا بإسقاط الحروف أو الكلمات، ومن الزيادات الاتفاقية كذلك إدخال الحواشي في النص ضنا أنها سقطت منه، ووجدها الكاتب في " الحيل في الفقه" للحصاف، ومن الأخطاء كذلك التقديم والتأخير نتيجة السهو والغفلة وإبدال الكلمة بالكلمة،  ومن أمثلة ذلك إبدال القلب بالنفس  كفي ديوان "عمر بن أبي ربيعة ".
ü  التحريف: ويحدث بقلب الحروف سهوا، مثل "عمل" و"علم"، وقد يخطئ الناسخ في قراءة ما هو مكتوب في الأصل ويكتب غيره، وينتج عادة بالتغاير في الحروف بين الخطوط. والتحريف موضوع من موضوعات علم الخط العربي الذي يحتفي بأنواعه ويشكل فنا من الفنون الجميلة في الشرق ومن أنواع الخطأ: الخطأ في الإملاء نتيجة عدم تعرف الكاتب على الكلام المملى فيكتب غيره.
ü  الأخطاء النحوية: حيث يستبدل النصب والجزم بالرفع، أو إبدال المذكر بالمؤنث والفاء بالواو والأعداد.
ü  الخلل في النسخ: ومن جنسه الخلل الطارئة على الأصل من نقص أو قطع  لبعض صفحاته  أو قص هامشه، وهو موجود في كتاب " الحيل في الفقه" للقزويني نشره شاخت. وبتتبع هذه الأخطاء يتوجب طرح السؤال: كيف أمكن لنص غير مفهوم مغلوط أن يجد مقاما في نص واضح صحيح ؟ هناك قاعدتان أساسيتان في نقد النصوص وهما:
النص الأقصر هو الصحيح، وهو الأقرب إلى الاحتمال.
النص الأصعب هو الصحيح، غير أن هذا المعيار قد لا يكون دائما صحيحا، ولكن استخراج النصوص المغلوطة من السليمة تقوم على هذه القواعد.
3)       القسم الثالث: العمل والاصطلاح
            وهو باب خصصه الكاتب  لوصف مسار الراغب في نشر الكتب القديمة معتمدا على ما سطره العالم الألماني "STAHLIN"  المتخصص في الفيلولوجيا؛ حيث بين الكاتب أن أول ما يجب معرفته هو: هل نشر الكتاب أم لا، ويمكن معرفة ذلك بالاطلاع على فهارس المكتبات، فإذا كان غير منشور أو كانت نشرته فاسدة فإنه يجب استقصاء النسخ الموجودة لمخطوطات الكتاب، وما ينصح به في هذا الإطار هو كتاب" تاريخ الآداب العربية" لبروكلمان، والفهارس العربية للمخطوطات، أو سؤال رجال العلم، ثم مقابلة النسخ واختيار أهمها وأنفسها، ولقراءة النسخ قد نكتفي بقراءة قطع مختارة منها ومقابلتها وخاصة ديباجتها أو آخرها، ومقابلة الاصطلاحات، والمقابلة بين النصوص معروفة في التراث الإسلامي مند النبي (صلى الله عليه وسلم)، فكثيرا ما كان علماء المسلمين يقابلون نصوص الترجمة، أما اليوم فقد أصبحت المقابلة أسهل مما كانت عليه حيث تخضع لتقنيات حديثة.
ü    والمقابلة نوعان: مشافهة ومعاينة، وتكون الأولى بقراءة أحدهم ومقابلتها بأخرى، أما المعاينة فهي معروفة في الغرب، وهي أن يقرأ الناقد نسخة ويحفظها ثم يقرأ النسخة الأخرى،  وحسب الكاتب فالمعاينة أكثر تدقيقا من المشافهة؛ لأن القارئ يضطر إلى إضافة النقط والشكل  من عنده ولا يعرف الناقد السامع  ما كان من النص وما كان من القارئ، غير أنه يتعين على  الناقد أن يقابل بين النسخ بالأصل الواحد المختار، والمقابلة عمل متعب، واجتناب كل الأخطاء صعب، ثم يتم ترتيبها لاستخراج درجات التناسب الحاصلة بينها، وذلك للوصول إلى الأصل. و بالانتقال من النسخة يكون النص هو المرحلة المقبلة للنقد، ونختار الأقرب إلى النص الأصلي ولتهذيبه نحتاج إلى نص واحد حتى لا نمزج بين الروايات المختلفة، ولنقده ننظر في:
ü    الإملاء: يعتبر الرسم القرآني مجال البحث الوحيد الذي تناوله البحث الإملائي أما في مجال اللغة فلم يخضع للبحث، مما يطرح إشكالا في نقد النصوص؛ حيث نجد مجموعة من إشكالات الهمز في الكتب القديمة، والذين ألفوا في الإملاء نذكر منهم ابن قتيبة، وقد اقتبسوا أشياء كثيرة من القرآن الكريم، لذلك لا يجب تطبيق القواعد الحديثة في الإملاء على النصوص القديمة أثناء التعامل معها، ولا بد من مراعاة الإملاء القديم  الذي استعمله المؤلف، وعلى الناقد والناشر مراعاة الطرق اللائقة بالكتاب، ويلحق التصحيف والتحريف كثيرا الأسماء الأعجمية والأشخاص والأماكن.
ü    الترقيم: يؤدي الترقيم السيئ إلى أخطاء، فالواجب على الناشر ضبطه، وإن كان النص العربي سهل قراءته بدون ترقيم، وأثناء الطبع لا بد من التفريق بين طبع النثر وطبع الشعر، ولا بد من حسن تقسيم النصوص إلى فصول، والتنبه إلى المواد، ويجوز زيادة علامات الحصر ك() لحصر ما ليس من النصوص .
ü    الإرجاع: وفائدته تسهيل الرجوع إلى الموضع من الكتاب بعد كل طبعة،  ومن طرقه تقسيم الكتاب إلى فصول ومواد بحيث يسهل على المراجع الرجوع إلى الموضوع، أما في الشعر فيتم ترقيم الأبيات على الهوامش، كما يمكن وضع الإحالات، ويستحسن التقليل والإيجاز في الإحالات والهوامش؛ لأن الغرض الأساس هو عرض نص المتن وليس غير ذلك.
ü    نشر الكتب بطبع الصور الشمسية لمخطوطاتها: إذا لم يوجد للكتاب غير نسخة واحدة  ينشر الناشر صوره الشمسية، ويكون ذلك بديلا عن الكتابة، كما فعل GUNABURG في نشره لديوان "ابن قزمان"، ونشر صور الكتب المصححة خير من نشر صور كتاب مستعص عن التصحيح والشرح.
                بعد الحديث عن المتن والهوامش، انتقل الكاتب للحديث عن المقدمة التي يرى أنها مجال للناشر والناقد؛ يصف فيها نُسخ الكتاب، ورموزها، والقواعد المعتمدة، واختلافات النسخ، كما يصف النشرات السابقة ومظهر النسخة ومضمونها؛ بذكر عدد أوراقها وأنواع الأرقام وطول صفحاتها، ووصف المضمون الذي يتضمن: اسم الكتاب، ومؤلفه، وأسماء أبوابه، وكيفية تنقيطه، وشكله، وحروفه، وخصائص النسخة، وما تنفرد به. بعد المقدمة، ينتقل لإعداد الفهارس وترتيبها؛ لأنها تفتح السبل إلى محتويات الكتاب ويكون ذلك بوضع كل أنواعها من فهرست الأعلام والأماكن ويرتب حسب الأسماء، ومن الفهارس التي يمكن وضعها فهارس الآيات القرآنية والشعر وأسماء المصادر والمراجع، ويرتب على أسماء الكتب أو المؤلفين، ومن أصناف الفهارس كذلك  فهرس المفردات والكلمات، ومنها فهارس كتب اللغة، وآخر عمل هو ترتيب هذه الفهارس، وأخيرا عرضه على النشر.
4)                خلاصة
             يظهر إذن أن منهج برجرستراسر في التحقيق منهج علمي عملي تطبيقي دقيق ومتكامل أكثر مما هو نظري، وتظهر هذه السمات في : 
- الاهتمام بتتبع محطات النقد والتحقيق؛ النسخ، النص، النشر النهائي.
- الاهتمام بالجزئيات (تصحيح الكلمات، الشكل، سقوط الأسطر...)
- حسن تقسيم المتون وتنظيمها، وتنظيم التهميش والإحالات...
- تصحيح أخطاء النساخ خارج النصوص باستعمال علامات الحصر واحترام كلام المؤلف.  
- دعوته إلى استخدام العلوم في ضبط درجات التقارب بين النسخ.
- وضوح منهجه المتجلي في المقارنة بين النسخ، والنصوص.
- الاهتمام بالفهرسة....
- الاستفادة مما  قدمه التراث العربي في التحقيق والنشر ومما قدمته الفيلولوجيا والمزج بينهما في منهج واحد.
                هكذا تظهر مجموعة من سمات منهج التحقيق لدى برجرستراسر، والتي يظهر من خلالها منهج التحقيق لدى المدرسة الاستشراقية الألمانية المتميز بالدقة والضبط، هذه المدرسة قدمت خدمات كثيرة للتراث العربي، كان أهمها حفظ عدد كبير من المخطوطات العربية من ضياع محتمل كان يمكن أن يحدث لها في البلاد العربية بسبب أوضاعها الاستعمارية والاجتماعية أنذاك، ثم تحقيقها وفهرستها وضبطها وإخراجها للقراء بعيدا عن الخلفيات الإيديولوجية التي كانت سندا للمدارس الأوربية الأخرى. 
المصدر:
جوتهلف برجرستراسر، أصول نقد النصوص ونشر الكتب، إعداد وتقديم محمد حمدي البكري، الطبعة الثانية،1995، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق