الخميس، 1 يناير 2015

الحقيقة والمجاز في كتاب "الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز " يحيى بن حمزة العلوي.

قراءة  رشدي السعيد
يندرج كتاب "الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز" ليحيى بن حمزة العلوي ضمن الجهود البلاغية لما بعد القرن السابع الهجري والتي بدأها ابن الأثير،  وقد سعت هذه الجهود عموما إلى جمع مادة الدرس البلاغي وتيسيرها، وتتجلى أهمية الكتاب في الكشف عن تلك الجهود التي تغيت جمع المادة المعرفية وبسطها من جهة، والكشف عن طبيعة المسار الذي أخذه الدرس البلاغي من جهة أخرى والذي تميز بارتباطه بقضية الإعجاز، وهو ما أشر على ثبات مسار الدرس البلاغي بعد الجرجاني من غير نزوع نحو التجديد والإبداع، كما كشف الكتاب عن وجهة نظر مخالفة تتعلق بفرقة الزيدية الشيعية، ويمثلها في الدرس البلاغي يحيى بن حمزة العلوي.
II.        قراءة في العنوان: "الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز" كتاب
مؤلف في ثلاثة أجزاء، والعنوان الذي ارتآه العلوي لكتابه يؤشر على موضوعه المرتبط أساسا بأسرار البلاغة وبحقائق الإعجاز في طراز واحد، والطراز كلمة فارسية معربة "تفيد الجيد من كل شيء"   ، والتركيب العطفي يوضح شدة هذا الارتباط الحاصل في نظر المؤلف بين البلاغة وقضية الإعجاز في نسيج واحد ووحيد، وهو هذا الكتاب.
III.       بعض الدراسات التي تناولت الكتاب:
البلاغة تطور وتاريخ، لشوقي ضيف، ط 9، دار المعارف.
المصطلح النقدي والبلاغي بين النظرية والتطبيق، لأستاذنا عبد القادر حمدي، ط1،2012، المطبعة والوراقة الوطنية الداوديات، مراكش، المغرب.
"من مباحث البلاغة والنقد بين ابن الأثير والعلوي" دراسة في التأثير والتأثر وتجاوزات الفهم، للدكتور نزيه عبد الحميد فراج، ط 1 ، 1997، مكتبة وهبه، القاهرة.
"تيسير البلاغة في كتب التراث"، د بن عيسى باطاهر، مقال منشور بمجلة مجمع اللغة العربية بالأردن، العدد 68، يونيو 2005.
IV.       التعريف بالكاتب
يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم العلويّ من أكابر أئمة الزيدية وعلمائهم في اليمن. ولد في صنعاء سنة 669هـ،  كان كثير التأليف والتصنيف ومن تصانيفه في أصول الدين،  «نهاية الوصول إلى علم الأصول» ثلاثة مجلدات، و«الحاوي» في أصول الفقه، ثلاثة مجلدات، و«الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز» في ثلاثة أجزاء، و كثير من التأليفات مازالت مخطوطة منها «الإيجاز لأسرار كتاب الطراز مخطوط» و «الانتصار مخطوط». توفي سنة 745 هـ.
V.        الباعث على تأليف الكتاب: لم يكلفنا الكاتب عناء البحث عن سبب تأليف الكتاب، فكشف في المقدمة عن الداعي إلى ذلك، فقال: " إن الباعث على تأليف هذا الكتاب هو أن جماعة من الإخوان شرعوا علي في قراءة كتاب " الكشاف" تفسير الشيخ العالم المحقق أستاذ المفسرين محمود" بن عمر الزمخشري" فإنه أسسه على قواعد هذا العلم، فاتضح عند ذلك وجه الإعجاز من التنزيل، وعرف من أجله وجه التفرقة بين المستقيم والمعوج من التأويل، وتحققوا انه لا سبيل إلى الاطلاع على حقائق إعجاز القرآن إلا بإدراكه، والوقوف على أسراره وأغواره. ومن أجل هذا الوجه كان متميزا عن سائر التفاسير، لأني لم أعلم تفسيرا مؤسسا على علمي المعاني والبيان سواه، فسألني بعضهم أن أملي فيه كتابا يشتمل على التهذيب والتحقيق، فالتهذيب يرجع إلى اللفظ والتحقيق يرجع إلى المعاني إذ كان لا مندوحة لأحدهما عن الثاني"  ، فيظهر من هنا أن الباعث على تأليفه ارتبط ببيان وشرح علمي المعاني والبيان حتى يستطيع القارئ الوقوف على إعجاز القرآن في كتب التفاسير. من هنا نستنتج ارتباط البلاغة بعلوم الإعجاز والقرآن الكريم وخدمتها له في تصور يحيى بن حمزة العلوي، وهو ما يؤشر على التوافق بينه وبين الجرجاني الذي ربط البلاغة بالإعجاز، والذي يدين إليه بكثير من الأفكار التي التقطها من الكتب التي وصلت إليه، وإن لم يكن مطلعا على مؤلفيه كما صرح بذلك في متن الكتاب.
VI.       مضامين الكتاب: حُقق الكتاب في ثلاثة أجزاء من طرف عبد الحميد هنداوي، ويتضمن قضايا بلاغية كثيرة، اتبع الكاتب في إيضاحها خطا منهجيا أساسه  التقسيم والمنطق اعتبارا لتخصصه في الأصول وعلم الكلام.
         الجزء الأول: قسمه إلى خمس مقدمات؛
المقدمة الأولى: في تفسير علم البيان، وقف فيه على ماهيته، وموضوعه، ومنزلته بين العلوم، والطرق الموصلة إليه، وفوائده.
المقدمة الثانية: في الألفاظ وأضربها.
المقدمة الثالثة: في الحقيقة والمجاز وأسرارهما.
المقدمة الرابعة: في مفهوم الفصاحة والبلاغة.
المقدمة الخامسة: في مواقع الغلط في اللفظ المفرد والمركب.
         الجزء الثاني: تناول فيه مجموعة من القضايا منها المجاز، حقائق الدلائل الإفرادية، التفرقة في الخطاب بين الجملة الفعلية والاسمية، أحوال الفصل والوصل، العطف، التقديم والتأخير، الإبهام والتفسير، الإيجاز، منزلة اللفظ من المعنى، العلاقات الدلالية، الإطناب ، الظواهر البديعية.
         الجزء الثالث: ذكر فيه التخييل، والاستطراد، والتصريع، والموازنة، والمعاظلة، والتورية، وأنواع البديع، وتطرق إلى بعض القضايا النقدية كالسرقات، ليقف في الأخير عن فصاحة القرآن؛ فذكر المزايا الراجعة إلى الألفاظ والراجعة إلى المعاني، وما يتعلق بالإيجاز والإطناب والمساواة، والفصل والوصل، والصورة البلاغية في القرآن، والدلالة، وأخيرا أوجه الإعجاز في القرآن الكريم، والرد على الطاعنين فيه.
فيظهر من هذا التوزيع أن المنهجية التي وضعها العلوي لكتابه توخت التسهيل والتيسير والإيضاح والتقريب، ،كما ذكر هو بنفسه، إيمانا منه بتعقد الدرس البلاغي وحاجته إلى التوضيح. من هنا كان كتابه متصفا بثلاث خصائص: تنظيم المادة البلاغية، وضع المصطلحات وتناولها بشكل دقيق وتوضيحها بأقصى درجات الإمكان، إيراد الشواهد والأمثلة من النصوص المتنوعة وتحليلها.  ويظهر هذا التخطيط أكثر من خلال الاطلاع على متن الكتاب.
من قضايا الكتاب: يطرح الكتاب مختلف القضايا التي تناولتها البلاغة العربية، وعلى الرغم مما قيل عنه، والانتقادات بالخبط والفساد وغيرها من الأوصاف الموجهة له تأثيرا أو تأثرا، فإنه يبقى وصفا لمحطة من محطات مسار البلاغة العربية في مرحلة وصفت كذلك بأوصاف مشابهة تارة بالجمود وتارة بالانحطاط وغيرها، ونحن لن نقف عند هذه الأوصاف إثباتا أو نفيا أو نقدا، ولن نتطرق إلى كل القضايا التي تناولها؛ فالمجال المفتوح أضيق من أن يستوعب ذلك، ولكن سنختار قضية واحدة للتناول، وهي الحقيقة والمجاز في كتاب الطراز.
     الحقيقة والمجاز: شكلت قضية "الحقيقة والمجاز" إحدى حلقات البحث اللغوي والكلامي والبلاغي والعقدي والإيديولوجي منذ أرسطو، والذي انتهى بالتسليم بوجود المعنى الحقيقي والمجازي، غير أن هذه القضية أخذت أبعادا وجودية واعتقادية خطيرة في الحضارة العربية توقفت كتب البلاغة العربية عندها بشكل واضح، لكنها لم تحظ بدراسة مستقلة ومباشرة كما هو حاصل في الدراسات المعاصرة.  وقد تناول  كتاب "أسرار البلاغة" للجرجاني  مبحثا في الحقيقة والمجاز؛ وجعل الوعي بالمجاز هدفا أساسيا للأسرار،  هذا من ناحية التأليف، أما من ناحية التوجهات الفكرية فقد عرفت نقاشات انتهت بآراء مختلفة مؤيدة وداعية إلى اعتبار المجاز حقيقة مبثوثة في الكلام الإلهي والإنساني على السواء، كما ذهب إلى ذلك أهل الاعتزال  والأشاعرة ، ورفضت الظاهرية وبعض فرق السلفية ذلك. ولما كان التفكير في الحقيقة والمجاز مبحثا وازنا وقضية لغوية وبلاغية وأصولية ترمي بظلالها على مباحث أساسية في التفسير واللغة وغيرها فإنها كانت محط نظر المذاهب الفكرية والاعتقادية والعلمية على اختلافها، ومظهرا من مظاهر الخلاف وصنع الاختلاف، لذلك سعت العديد من كتب البلاغة إلى بسطه وتيسيره للقراء خاصة بعد القرن السابع الهجري، وكتاب الطراز يندرج فيه هذا الإطار، فكيف وضح كتاب الطراز هذه القضية؟
     قضية الحقيقة والمجاز في كتاب الطراز: يندرج مبحث الحقيقة والمجاز ضمن المقدمة الثالثة في الجزء الأول، وينطلق العلوي لتوضيحها من بيان أن المجاز يشكل قاعدة من قواعد علم البيان؛ فالبيان والفصاحة لا يظهران إلا منه؛ من خلال الاستعارة والتشبيه والكناية. من هنا توجه للدفاع عنه مدعما رأيه برأي ابن جني بقوله:" أكثر اللغة مجاز"، ووضح أن من قال: الكلام كله حقيقة إفراط، و أن كله مجاز تفريط،  لينتهي بالنتيجة أن الكلام حقيقة ومجاز، مدعما رأيه باستدلالات كثيرة من اللغة والقرآن الكريم. ولتفصيل قضيته ابتدأ بقسم أول سماه :      " ما يتعلق بالحقيقة على الخصوص" فاستنتج أن لفظ الحقيقة في حد ذاته موضوع على المجاز لما أفادت معنى غير ما وضعت له في أصل الوضع الذي يفيد الحق النقيض للباطل، ولما كان الحق ثابتا على الأصل ولا يُفارق ولا يزول، أُطلق على كل ما كان على أصله، فأضحى إطلاق الحقيقة على كل أصل ثابت مجازا؛ لأنها أفادت معنى غير ما وضعت له في الأصل. ثم انتقل إلى بيان حدها من خلال تأييده لقول أبي الحسين البصري بقوله:" ما أفاد معنى مصطلحا عليه في الوضع الذي وقع فيه التخاطب"؛ أي كل كلام أفاد معنى عقليا أو وضعيا ومصطلحا عليه، احترازا من غير المصطلح عليه؛ أي ما يمكن إدراكه بأصناف الدلالات المتعددة، وقوله ما وقع فيه التخاطب؛ أي الحوادث اللغوية والشرعية والعرفية، ثم أبطل مجموعة من التعريفات الخاصة بالحقيقة، وهي تعريف أبي عبد الله البصري، وعبد القاهر الجرجاني، وابن جني، وابن الأثير، لأنها لا تشمل الحقائق العرفية والشرعية، ثم انتقل إلى بيان أنواعها وحدده في ثلاثة :الحقيقة اللغوية، والحقيقة العرفية، والحقيقة الشرعية.
     الحقيقة اللغوية: وهي التي تفيد بالمواضعة، أي ما وضعت له، كإطلاقنا الأرض على الأرض، فإذا استعملت في معناها الأصلي فهي حقيقة، وإذا استعملت في معنى آخر فهي مجاز.
      الحقيقة العرفية: وهي تلك الحقيقة المنقولة عن استعمال آخر غير حقيقي وفيه مجريان؛ المجرى الأول كقوله تعالى :"حرمت الخمر" بإسنادها لنائب الفاعل فحملت على المجاز لأن الحقيقة هي تحريم شرب الخمر، واستنكار الفعل أدى على الحذف، فصار هذا المجاز عرفا؛ ومن أمثلته كذلك قول : حكاية فلان وإلا فالقول كلام فلان، ومنها كذلك قصر الاسم على بعض مسمياته؛ كالدابة على كل ما يدب في الأرض، لكنها تحولت واقتصرت على ذوات الأربع، والمجرى الثاني هو العرف الخاص، ومن صوره ما استعمله النحاة من الرفع والنصب وغيرها من المصطلحات.
      الحقيقة الشرعية: أي تلك الألفاظ المنتقلة من الاستعمال اللغوي إلى الاستعمال الشرعي فأصبح لها معنى غير ما وضعت له في اللغة؛ فالصلاة في اللغة تفيد الدعاء، وفي الاستعمال الشرعي تفيد عبادة مخصوصة، واختلف في هذه المسألة بين من ينفي ذلك كالأشاعرة، ومن يثبتها كالمعتزلة والزيدية الذين يرون حصول النقل في تلك المعاني من الاستعمال اللغوي إلى الشرعي .
ثم انتقل العلوي لبيان أحكام الحقائق وحددها بحسب ما يكون من جهة اللغة أو ما يكون من جهة العرف أو من جهة الشرع.
      ما كان من جهة الحقيقة اللغوية: يرى العلوي أن ما كان بالوضع الأول ليس حقيقة ولا مجازا، فإن تكرر استعماله على ما وضع له في الأصل كان حقيقة، وإن استعملت في غير ما وضعت له في الأصل كان مجازا؛ فالحقيقة لا تصير كذلك إلا إذا تكرر استعمالها، وكانت مسبوقة بالوضع الأول، أما المجاز فهو المستعمل في غير موضوعه الأصلي.
       ما كان من جهة الحقيقة العرفية: فهي من الضروري أن تسبقها الحقيقة اللغوية.
      ما كان من جهة الحقيقة الشرعية: إذ لا بد كذلك أن تكون مسبوقة بالوضع اللغوي.
وصحة النقل في هذه الحقائق يتفرع عنها ثلاثة فروع:
      الفرع الأول: التواطؤ في الألفاظ الشرعية؛ إذ تطلق على معان كثيرة يجمع بينهما خيط ناظم ومثاله: إطلاق الإيمان والإسلام على أعمال مختلفة كالأقوال والأفعال والاعتقاد.
      الفرع الثاني: الفعل لا يكون شرعيا بنفسه؛ كما هو حال الاسم الذي يغيره الشرع عن موضوعه اللغوي، ويأخذ دلالات شرعية أخرى، أما الحرف فلا يكون له وجه شرعي؛ فظهر أن الدلالة الشرعية وجدت للاسم فقط، ولا يوجد فعل شرعي ولا حرف شرعي.
      الفرع الثالث : ما يكون بالتردد بين الخبر والإنشاء إذا وضعت لأحداث الأحكام؛ كالطلاق مثلا فالقول: أنت طالق، في حال كونه خبرا، لا بد أن يكون المخبر مطابقا لحالة الطلاق، فيكون الخبر صادقا، فيلزم منه أن يكون الطلاق واقعا قبل حصول القول،  في حين أن حقيقة الطلاق لا تحدث إلا بعد أن  يقول القائل: أنت طالق، فكان حملها على الإنشاء أفيد، وما يؤيد كونها جملة إنشائية قوله تعالى :" فطلقوهن لعدتهن" وهذا أمر بالتطليق، وهو المقصود، وإثبات مثل هذه الأحكام جزء مما أراده من ذكره لقسم الحقيقة وما يختص بها في هذا الكتاب.
      ما يتعلق بالمجاز على الخصوص: بدأ العلوي قسم المجاز بالوقوف على الدلالة اللغوية للكلمة،  واستنتج أن المجاز يفيد التعدي والعبور، ثم انتقل إلى بيان حده،  وقال أن أحسن ما قيل فيه:  "ما أفاد معنى غير مصطلح عليه بالوضع الذي وقع فيه التخاطب لعلاقته بين الأول والثاني"  ويرد على من توهم خروج الاستعارة من التعريف، كفي القول:" رأيت أسدا " فإنه يكفي حصول المبالغة والتعظيم أن يقدر له من القوة ما كان للأسد، وعلى هذا يكون استعمال معنى الأسد في معنى غير ما وضع له، وبالتالي فهو مجاز، كما رد على من توهم خروج الألفاظ  الشرعية من التعريف بقوله فيه :"ما أفاد معنى غير مصطلح عليه في الوضع"  وهذا كاف ليشمله. بعد ذلك وقف بنفس الخطوات المنهجية التي سلكها في حد الحقيقة على مجموعة من التعريفات الخاصة بالمجاز، وبين ما فيها من خلل في تصوره، وهذه التعريفات تخص تعريف عبد القاهر الجرجاني، وابن جني، وعبد الله البصري،  وابن الأثير، وذكر أن هذه التعريفات فاسدة؛ لأنها تقتضي خروج الحقائق العرفية والشرعية. وذكر أن تعريف المجاز لا يكون على الحقيقة ولكن يكون على جهة المجاز؛ لأن حقيقة هذا اللفظ هي العبور؛  بمعنى انتقال جسم من مكان إلى آخر، وهذا لا يجوز في الألفاظ إلا من جهة التشبيه،  ثم أن  صيغة مجاز هي مفعل وبناء المفعل حقيقة إما في المصدر أو في المكان والزمان، فأما الفاعل فليس مستعملا فيه فيقال بأنه حقيقة كما قرر من قبل، وعلى هذا يكون استعمال المجاز في الانتقال لا يليق إلا مجازا.
      أقسام المجاز:  يرى العلوي أن المجاز واسع الخطو، وهو وارد في المفردات والمركبات و فيهما جميعا،  فهذه مراتب المجاز منها سيبدأ في تقسيماته:
      المجازات المفردة: كاستعمال الأسد في الرجل الشجاع، فيسمى الشيء باسم الغاية منه وعدها في خمس عشرة مفردة وهي تسميتهم العنب خمرا، أو بما يشبهه، أو تسميتهم المذلة العظيمة بالموت، أو تسمية اليد باسم القدرة كفي قوله تعالى:" يد الله فوق أيديهم"، أو تسمية الشيء باسم قائله، فقالوا سال الوادي والحقيقة سال ماء الوادي، أو تسمية الشيء باسم ما يلابسه كتسميتهم المطر بالسماء، أو إطلاقهم الاسم أخذا له من غيره كلفظ الأسد على الشجاع، أو تسمية الشيء باسم ضده كقوله تعالى "وجزاء سيئة سيئة مثلها"، أو تسمية الكل باسم الجزء  كإطلاق لفظ عام على مراد مخصوص كإطلاق الرقبة على العبد، أو تسمية الجزء باسم الكل  كتسمية الزنجي بالأسود مع أن أسنانه بيضاء، أو إطلاق اللفظ المشتق بعد زوال المشتق منه؛ كالقول قاتل بعد الفراغ من القتل، أو المجاورة كنقل اسم الراوية من ظرف الماء، أو إطلاق لفظ الدابة على الحمار، أو المجاز بالزيادة كقوله تعالى " ليس كمثله شيء" فالكاف زيادة، أو المجاز بالنقصان كقوله تعالى : واسأل القرية" ، أو تسمية المتعلِّق باسم المتعلَّق كتسمية المعلوم علما. ورد على منكري المجاز في المفرد بقوله إن اللفظ الذي لا يفيد إلا مع القرينة فهو المجاز بعينه لأن دلالة القرينة ليست وضعية وإنما تكون عقلية  أما بدون القرينة فلا يكون مفيدا وبالتالي لا يكون حقيقة.
      المجازات المركبة:  وهو الذي يحصل في التركيب وجاز من جهة الإسناد كقول الشاعر: أشاب الصغير وأفنى الكبير     كر الغداة ومر العشي
فجاز المجاز من جهة إسناد الإشابة والإفناء إلى كر الغداة وإلى مر العشي.
      بيان المجازات الواقعة في المفردات والتركيب : ويقع في البلاغة أحسن هيئة، ويكسب الكلام رونقا وطلاوة، ويذيقه حلاوة، كقولهم:" أحياني اكتحالي بطلعتك"، والمجازات المركبة مجازات لغوية في أغلبها؛ لأنها مركبة بالمعاني اللغوية.
       في ذكر الأحكام المجازية:
 1الحكم الأول: الأصل في إطلاق الكلام أن يكون محمولا على الحقيقة، ولا يعدل إلى المجاز إلا لدلالات ثلاث:
أولها: التجرد من القرينة، فيحمل على الحقيقة وهو الأصل، وإذا حمل على المجاز فهو باطل.
ثانيها: المجاز لا يمكن تحققه إلا عند نقل اللفظ من شيء إلى شيء آخر لعلاقة بينهما.
ثالثا: لو لم يكن الأصل في الكلام هو الحقيقة لكان الأصل لا تخلو حاله من أن يكون هو المجاز ولا قائل به،  فيجب القضاء بفساده، أو لا يكون واحد منهما هو الأصل وهو باطل.
2 الحكم الثاني:  العدول عن الحقيقة إلى المجاز يرجع للفظ وحده وإلى المعنى وحده أو إليهما معا فهذه مقاصد ثلاثة، وهي:
 المقصد الأول: ما يرجع إلى اللفظ وحده، بسبب الخفة على اللسان، أو لخفة مفرداته ، أو أن تكون المفردة صالحة في الشعر للقافية، أو أن تكون اللفظة المجازية جارية على الأقيسة اللغوية في تصاريفها والحقيقة منحرفة عن ذلك.
المقصد الثاني: ما يرجع إلى المعنى، وذلك من أجل التعظيم، كقول: "سلام على الحضرة العالية"، أو التحقير كالقول بقضاء الوطر من النساء بالوطء، أو تقوية حال المذكور كقولك: رأيت أسدا، كان أقوى من قولك رأيت رجلا يشبه الأسد، أو التوكيد لأن التوكيد في المجاز أكثر وقعا في النفس؛ كالقول رأيت أسدا في سلاحه.
المقصد الثالث: ما يرجع إلى اللفظ والمعنى معا: وإليه يرجع حسن الكلام ورشاقته لما لا يحققه من الشوق إلى الكلام، فلا جرم أن تكون العبارة بالمجاز إلى تحسين الكلام وتلطيفه.
3 الحكم الثالث: إجماع العلماء على جواز دخول المجاز في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم مفردا ومركبا، واستدل بمجموعة من الآيات مثل " واخفض لهما جناح الذل من الرحمة" وغيرها، ورد على من زعم أن حصول المجاز يؤدي إلى مطاعن في ذات الله تعالى  وفي صفاته وكلامه،  بقوله:  إن الأوصاف الإلهية  موردة بالشرع ولا حاجة لإثباتها أو إنكارها من جهة باللغة، ثم أن التكلم مجازا يكون لحكمة ولا يطاله العبث، أما التباس الحقيقة بالمجاز فالقرائن تحول دون ذلك، وأما كلامه حق فمعناه الصدق.
4 الحكم الرابع: في كيفية استعمال المجاز، يجب قصر المجازات المفردة على الأماكن التي وردت فيها من غير تعدية، ومثال ذلك في مجاز النقص: " واسأل القرية" فلا يجب تعدية هذا المجاز، فنقول: سل الجدار أو الشجرة إلا بإذن من جهة اللغة، وضرب مثالا من كل نوع من الأنواع السالفة الذكر، أما المجازات المركبة فالأقرب جواز تعديها إلى غير مجالها، لا التي وردت فيه، فقوله تعالى "أخذت الأرض" يجوز نقلها ليقال أنبتت الأرض، وغير ذلك.
5 الحكم الخامس: استعمال المجاز مخصوص بالألفاظ دون الأفعال؛ كالقيام والقعود والصور وإذا كان مخصوصا بالألفاظ فهي منقسمة إلى الأسماء والأفعال والحروف؛ فالحروف لا مدخل لها في المجاز، والأفعال دالة على حصول الفعل في زمن، ومشتقة من المصادر، فإن حصل فيها مجاز فالفعل تابع له، أما الأسماء فهي أنواع منها العلم، ولا مدخل للمجاز فيه، والمصدر قد يدخله المجاز إذا نقل استعماله، واسم الجنس وهو أكثر ما يرد فيه المجاز في حالة الإفراد.
      القسم الثالث في ذكر الأحكام المشتركة بين الحقيقة والمجاز
            الحكم الأول: يرى العلوي أنه إذا دلت اللفظة على أزيد من معنى واحد على جهة الاستواء فهما على الحقيقة، وهذا هو الاشتراك، وأما إذا كان أحدهما سابقا إلى الفهم دون الآخر، فيكون للسابق الحقيقة وللآخر المجاز، فإذا كانت الحقيقة مستعملة فيهما معا فلا بد من التفرقة بين حقيقتها ومجازها، وللتفرقة بينهما ساق الكاتب فروقا نذكرها في: كون اللغة أو مستعمل اللغة في الدرجة الثانية هما المستند في ذلك، ويكون ذلك بتعريف قاطع للاحتمال وهو التنصيص، أو بتعريف تعرض للاحتمال وهو الاستدلال :
            التنصيص: ويكون من خمسة أوجه أولها أن يصرح الواضع فيقول: هذا حقيقة وهذا مجاز، ثانيها: أن يميز كل واحد من الحقيقة والمجاز بحد، ثالثها: أن يذكر لكل واحد منهما خاصة تخصه؛ لأن الخاصة تتلو الحد في بيان الماهية، ورابعها: أن ينص واضع اللغة في بعض الألفاظ بمواقع مجاز اللفظ ومواقع حقيقته ، وخامسها: أن ينص واضع اللغة بتحديده مواقع استعمالها على جهة الإطلاق، ويكون على جهة الحقيقة، ومتى استعملها على جهة التقييد فهو للمجاز.
            الاستدلال: يرى العلوي أنه يكون بإدراكنا من الكلام ما يوقفنا على أمور تشعرنا بالتفرقة بينهما، ويكون ذلك من أربعة أوجه؛ أولهما: أن تستعمل في معنيين؛ أحدهما أن يكون سابقا إلى الفهم عند إطلاق اللفظ من غير قرينة، والآخر لا يفهم إلا بعد القرينة، ثانيها: أن يعلم من أهل اللغة إذا غيروا اللفظ عن المعنى ذكروا معه قرينة، فيعلم قطعا أن الأول هو الحقيقة والثاني مجاز، ثالثا: إذا علقوا الكلمة بما يستحيل عقلا علم في أصل اللغة غير موضوعة له، فيعلم منها كونه مجازا، رابعها: أن يضعوا لمعنى لفظا ثم يتركوا استعماله وأطلقوه على بعض من مجاريه فقط، كاقتصار الدابة على ذوات الأربع، فعلمنا من ذلك كونه مجازا.
            الفروق الفاسدة: أتى العلوي بفروق وضعها الغزالي للتفرقة بين المجاز والحقيقة فأفسدها وهي: أولها أن الحقيقة جارية على الاطراد، وأما المجاز فليس حاله ما ذكر من الاطراد. فاستعمال السؤال للقرية لا يستعمل للجدار أو الشجرة وهذا فاسد، والفرق الثاني: هو الامتناع من الاشتقاق دليل على كون اللفظة مجازا، اختلاف صيغة الجمع على الاسم يعلم أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، رابعها:  إذا تعلق الخبر الحقيقي بالغير فإن استعمل فيما تعلق له فهو مجاز، كل هذه الفروق يرى العلوي أنها فاسدة؛ لأن المستند في التفريق بينهما أمر الواضع وتقريره؛ ولأنه لا يوجد إشعار بأن ما وضع له اللفظ حقيقة أو مجاز،  ثم لأن أبنية الجموع  تختلف في أنفسها باختلاف أبنية الأسماء، وأخيرا  لأنه يحتمل أن يكون الاشتراك حاملا للمعنى عليهما معا، فيكون حقيقة فيهما معا. وأورد مجموعة من التنبيهات منها الفرق بين الكلام  في التعريفات والكلام في التفرقة فالأول هو كلام في الماهية، والثاني كلام في الأحكام ومعرفة الخصائص. ووقوع الأخطاء في التعريف الأول لا يوجب الخطأ في الفروق لانحرافهما في المقاصد.
            الحكم الثاني: من شرط المجاز أن يكون مسبوقا بالحقيقة والعكس غير صحيح، فلا يلزم من كل حقيقة أن يكون لها مجازان ويلزم لكل مجاز أن تكون له حقيقة سابقة عنه.
             الحكم الثالث: يرى العلوي أن الحقيقة قد تكون مجازا، والمجاز قد يصير حقيقة؛ لأن الحقيقة إذا قل استعمالها صارت مجازا عرفيا؛ كإطلاق الدابة على الدودة، وإذا كثر استعمال المجاز صار حقيقة عرفية ومثاله: الغائط فإنه كان مجازا في قضاء الحاجة، وحقيقته المكان المطمئن من الأرض.
            الحكم الرابع: اللفظ في نفسه قد يكون خاليا من المجاز وحده، وقد يكون خاليا من الحقيقة كذلك، ومن صور ذلك أسماء الأعلام نحو زيد وعمر؛ لأنها لم توضع في الأصل دالة على شيء كما لو قلنا حيوان أو إنسان، ولكنها ألقاب تصلح للتفرقة بين المسميات. فإن دلت على ما وضعت له في الأصل فهي حقيقة، وإن استعملت في غير ذلك فهي مجاز، أما الصورة الثانية: ما يكون خاليا من المجاز ويكون حقيقة على الإطلاق كالضمائر، والصورة الثالثة:  لما يكون خاليا من الحقيقة والمجاز في أصل الوضع، ثم تلتحق به الحقيقة من بعد أو المجاز.
            الحكم الخامس: في اللفظ الواحد، هل يكون حقيقة ومجازا على الجمع ؟ وهذا جائز ومثاله الأسد فيجوز إطلاقه مجازا على الرجل كما يجوز إطلاقه على الحقيقة. أما استعمالها على الحقيقة والمجاز في لحظة واحدة فهو محال؛ لاجتماع النفي والإثبات من الجهة الواحدة.
خاتمة:
هكذا يكون العلوي فصل غاية التفصيل في قضية الحقيقة والمجاز بالأسلوب الأصولي عن طريق الإتيان بحدهما وأنواعهما وأحكامهما، غير أن ما يلاحظ عليه سيطرة هذه النزعة في تفصيلهما؛ فنهج التقسيمات الأصولية للمباحث، واستعمل بعضا من مفاهيمها؛ ومما لوحظ عليه كذلك تعسف كبير في مناقشته وتقييمه لتعريفات الجرجاني وابن جني وابن الأثير، خاصة عندما يتعلق بمجال اختصاصه كما رأينا في حد الحقيقة والمجاز، وإسقاطه تلك المفاهيم على تعريفاتهم، وإفساد أرائهم، علما بأن هؤلاء الرجال نظروا إلى الحقيقة والمجاز من منظار بلاغي صرف، ولا تهمهم الحقائق العرفية والشرعية، من غير أن يكون له اتصال ببعضهم فالعلوي لم يطلع على ما كتبه الجرجاني إلا بوساطة "التبيان" للزملكاني، كما جنح إلى الإغراق في تعريف ماهية الحقيقة والمجاز، وعدم الالتفات إلى وظائفهما البلاغية أو تجلياتهما، والتخبط في بعض الموضوعات تصنيفا؛ فيضع بعضه في غير موضعه، كما حصل في تفريقه بين الإيجاز والإطناب تمويها، أو رغبة في إخفاء مصادره؛ خاصة المثل السائر لابن الأثير، أو رغبة في نسبها لنفسه، ومما لوحظ عليه كذلك عدم الإتيان في بعض الأحكام أو التصنيفات بأمثلة، وعدم مناقشتهما وإن استشعر بأن هناك نقص في توضيحها، فكلما جنح التفصيل إلى خارج اختصاصه إلا ونجده يستعمل لغة مسالمة وهادئة، وهذا ما يجعلنا نقول: إن العلوي حاول تفصيل هذا الموضوع ومباحثه بما ملك من المعرفة الأصولية، وبما تيسر له من المعرفة باللغة والبلاغة، انسجاما مع ما سطره في مقدمة الكتاب، غير أن جنوحه نحو استعمال المنهج الأصولي وحقائقه، وإقحام مفاهيمه لم يسعفه كثيرا، ومما يحسب لكتاب الطراز حسن تبويبه واعتماده مقدمات تفصيلية لمتن الكتاب على غرار كتب الأصوليين، واستعماله للمصطلحات بشكل متميز، يقول الأستاذ عبد القادر حمدي:" يتبين أن العلوي يؤمن بأن لكل ماهية مصطلحا يدل عليها، ومن ثم حاول أن يخلص البلاغة والنقد مما كانت تعانيه من فوضى وتداخل وعدم وضوح دلالة معجمها الفني أو العلمي بسبب اكتفاء بعض العلماء المتأخرين بترديد ما سبقوا إليه من مصطلحات من غير محاولة تحديد دلالتها تحديدا واضحا ودقيقا"3، وعموما فإن كتاب الطراز يعد حلقة شاهدة على طبيعة الدرس البلاغي العربي بعد القرن السابع الهجري، فترةٌ تميزت بجنوح الدرس البلاغي إلى جمع المادة البلاغية، ومحاولة تنظيمها وتيسيرها بالشرح والتوضيح وضبط المصطلح، وهو ما سطره بنفسه في مقدمة كتابه، وهو ما يجعلنا نستنج أن مسار الدرس البلاغي في هذه الفترة كان موازيا لمسار الدرس اللغوي والفقهي من حيث سيطرة هَمُّ جمع المادة المعرفية وشرحها وتيسيرها.



المراجع
1)        ابن منظور، لسان العرب، تحقيق عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلي، دار المعارف، مصر.
2)        : يحيى بن حمزة العلوي، الطراز، تحقيق عبد الحميد هنداوي،ج 1، ط1 ، 2002، المكتبة العصرية، بيروت.
3)        عبد القادر حمدي، المصطلح النقدي والبلاغي بين النظرية والتطبيق، ط1،2012، المطبعة والوراقة الوطنية الداوديات، مراكش، المغرب.
4)        تيسير البلاغة في كتب التراث"، د بن عيسى با طاهر، مقال منشور بمجلة مجمع اللغة العربية بالأردن، العدد 68، يونيو 2005.
5)        من مباحث البلاغة والنقد بين ابن الأثير والعلوي"دراسة في التأثير والتأثر وتجاوزات الفهم، للدكتور نزيه عبد الحميد فراج، ط 1 ، 1997، مكتبة وهبه، القاهرة.




هناك تعليق واحد: