الأحد، 28 ديسمبر 2014

السرقات الشعرية في كتاب "الموازنة بين الطائيين" للآمدي.

إعداد:  رشدي السعيد
طرح "كتاب الموازنة بين الطائيين" للآمدي (370هـ) قضايا نقدية كثيرة، شكلت أهم ما تداوله النقد العربي القديم، ومن بينها السرقات الشعرية، وهو الموضوع الذي اخترناه ليكون محور هذه الورقة.
مفهوم السرقة: ذكر ابن منظور في لسان العرب: «سَرَقََ الشيء يسرِقه سَرَقا وسرِقا... وفي التنزيل (إن ابنك سُرِّقَ) واسترق السمع أي استرق مخفيا ويقال: هو يسارق النظر إليه إذا اهتبل غفلته لينظر إليه ... والسارق عند العرب من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس».[1]
فيظهر من التعريف أن مفهوم السرقة ينصرف إلى ما هو مادي، وما هو معنوي وفكري؛ فانتقل من السلوكات الاجتماعية المرتبطة بالتعاملات المادية إلى الدراسات الأدبية، ليشير إلى ما يأخذ الأديب عن أديب آخر من أدبه، من دون إذنه، فينسبه لنفسه محاكاة، أو اقتباسا، أو تضمينا، إلى غير ذلك من المصطلحات التي تلفه. وظاهرة السرقة الشعرية ظاهرة كونية عرفتها جل الآداب العالمية تحت مسميات مختلفة، ومن بينها الأدب العربي؛ فقد أشارت العديد من الدراسات القديمة والحديثة إلى ما حصل من سرقات الشعراء الجاهليين، ومنها ما أخذه طرفة بن العبد من امرئ القيس في قوله :
وقوفا بها صحبي علي مطيهم       يقولون لا تهلك أسى وتجلد.
فلم يغير طرفة سوى ضرب البيت :" تجلد" بعد أن قاله امرؤ القيس بـ "تجمل".[2]
وتميز ظهور موضوع السرقات الأدبية والشعرية في النقد القديم بكونه شكل مقدمة لقضايا نقدية كثيرة منها قضية الخصومات الأدبية بين القدامى والمحدثين، وأول كتاب وصل في موضوع السرقات الشعرية هو: كتاب "سرقات الكميت من القرآن وغيره" لابن كناسة المتوفى سنة (207 هـ)، تبعه ابن السِّكيت (240هـ) ب "سرقات الشعراء وما اتفقوا عليه"[3]، بعد ذلك توالت المؤلفات في هذا الموضوع الى أن ظهر مؤلفان كبيران في مجال النقد؛ منهجا، وموضوعا، وتحليلا، وتعليلا، وهما: "الوساطة بين المتنبي وخصومه" للجرجاني، و"الموازنة بين الطائيين" للآمدي في القرن الرابع.
إن منهج تناول موضوع السرقات الشعرية في كتاب الموازنة شكل خطوة نقدية مهمة في تاريخ النقد العربي، أدى فيه الجدل المثار بين أنصار "البحتري" تيار الثبات، وأنصار "أبي تمام" تيار التحول دور الباعث على تأليفه.[4]
فما هو المنهج الذي اتبعه الآمدي في تناوله لهذا الموضوع؟
كعادة الكثير من الكتب القديمة، فإنه يصعب ضبط المنهج المتبع في بسط وتناول قضاياها الفكرية، ورغم أن الآمدي استعرض في مقدمة كتابه المنهج المتبع في الموازنة بشكل عام، فإن ذلك لم يكن ليغني عن التوجه إلى المنهج المعتمد في تناول كل قضية من قضاياه الجزئية؛ إذ وجدنا أن المبادئ المؤطرة لمنهجه منثورة بين ثنايا الكتاب بشكل غير منظم، وتابع لما أملته طبيعة البحث وطريقة  تناول المواضيع التي تحيل كثيرا على طريقة الجاحظ .
وبالرجوع إلى موضوع السرقات وجدنا أن المعايير المعتمدة فيها انصرفت إلى ما يلي:
- المعيار الأول: بقوله:«إنما السّرق يكون في البديع الذي ليس للناس فيه اشتراك»[5]
- المعيار الثاني:السرقات في المعاني ليس من كبير مساوئ الشعراء وخاصة المتأخرين؛ لأنه كما قال :«باب ما يعرى منه أحد»[6].
- المعيار الثالث: اختلاف الغرض ينفي السرقة .
- المعيار الرابع: التقارب في بيئة الشاعرين يجعلهما متفقين في المعاني.[7]
- المعيار الخامس: كثرة محفوظ الشاعر يُؤدي إلى توارد نفس المعاني.[8]
إن المتمعن في هذه المعايير والنماذج التي أخرجها الآمدي من سرقات أبي تمام، والتي وصلت إلى حوالي 120 بيتا، وما أخرجه من سرقات البحتري والتي وصلت إلى حوالي 92 بيتا، والتعليلات التي قدمها للحكم بالسرقة من عدمها، يلاحظ أنه قدّم  موضوعا نقديا خصبا وواسعا للدراسة، سواء من حيث المنهج المتبع ومدى التزامه به، أو من حيث ما وقع فيه من غلبة الذوق الشخصي في الحكم كإشكال مازال يحيط بالنقد ومعظم العلوم الإنسانية إلى يومنا هذا.
ومما أخرجه الآمدي من سرقات أبي تمام والبحتري، مايلي:
- المثال الأول، قال أبو تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب     في حده الحد بين الجد واللعب.
قال الآمدي بأن البيت أخذه من قول الكميت الأكبر في قوله:
لا تكثروا فيه اللجاجَ فإنه     محا السيفُ ما قال ابن دارَةَ أجمعا.[9]
 إن المُطّلِعَ على القصيدة كلية وأسلوبها وظروفها الحقيقية لن يذهب إلى ما ذهب إليه الآمدي، رحمه الله؛ فالبيت قاله أبو تمام بمناسبة أمر المُنجّمين للمعتصم بعدم القدوم على فتح عموريه؛ لأن فتحها يرتبط بموسم العنب والتين في تقديراتهم، فَفَتحها المعتصم في غير ذلك التاريخ، فكذّب فتحُها بالسيف تخمين المنجمين في كتبهم. بالإضافة إلى ذلك، يلاحظ اختلاف الغرض في البيتين؛ فعند أبي تمام المدح، وعند الكميت الفخر بالقتل، وهو ما لا ينسجم والمعيار الثالث.
المثال الثاني، قال أبو تمام:
أبدلْتَ أرؤُسَهم يوم الكريهةِ من    قنا الظهور قنا الخطِّيِّ مدعما.[10]
ذكر الآمدي أن هذا البيت أخذه عن مسلم بن الوليد، فإذا كان مسلم ولد سنة  (208 هـ) وأبو تمام توفي سنة (231 هـ) فإن مسلما عاش معاصرا له 23 سنة ألم ينافي ذلك المعيارَ الرابع؟ أي العيش في نفس البيئة.
المثال الثالث: قال أبو تمام واصفا مغنية فارسية
ولم أفهم معانيها، ولكن    شجت كبدي، فلم أجهل شجاها.
ذكر الآمدي أنه أخذه عن الحسين بن الضحاك في قوله:
               وما أفهمُ ما يعني        مغَنّينا إذا غنى
             سوى أني من حبي       له أستحسنُ المعنى.[11]
إذا علمنا أن ابن الضحاك توفي في (250 هـ) وأبا تمام توفي في (231 هـ) فإن المنطقي أن يكون ابن الضحاك هو من أخذها عن أبي تمام ليس بمنطق العمر؛ لأن ابن الضحاك عمر أكثر من أبي تمام، ولكن بمنطق الذيوع والشهرة، وليس العكس.
ولم يعتبر الناقد المشترك من المعاني ضمن السرقات؛ لأن ذلك جرى على عادات الناس في تداولاتهم، وصحح لابن أبي طاهر بعض ما اعتبره سرقات البحتري.
المثال الرابع: قول البحتري وقد نسبها إليه أبو الضياء :
ما لشيء بشاشةُُ بعد شيء    كتلاقِِ مُواشك بعد بينِ.
وقال أبو تمام:
وليست فرحة الأوباتِ    إلا لموقوف على تَرَحِ الوداع
     والملاحظ اختلاف الغرضين، فقصر أبو تمام الفرح على من شجاه التوديع، وأراد البحتري ليس شيء من المسرة إذا جاء في أثر شيء ما كالتلاقي بعد التفرق. غير أن الآمدي اعتبر ذلك من سرقات البحتري.
استنتاج وقضايا:
إن دارس موضوع السرقات في كتاب الموازنة سيجد أن هذا الموضوع يحتاج إلى مزيد من البحث من زوايا مختلفة، وأهمها القضايا المرتبطة بالسرقة والتي من بينها:
1- ما يجب أن يكون من البحث في الناحية التاريخية؛ وذلك لإثبات الرواية. فهذا المجال لم ينل من الاهتمام ما ناله علم الحديث وعلم اللغة وأصولهما من الدقة في نسب الأخبار والمتون الشعرية.
2- فضل الآمدي الأكثر تمسكا بعمود الشعر، وظهر ذلك في طريقة بنائه لمنهجه في الموازنة ومعاييرها؛ فالمتمعن في تعليلاتها ومنهجها سيجد ميلا واضحا لجهة البحتري وإن ادعى الحياد؛ ومتصفح فهرس الكتاب سيجد كل المواضيع المطروحة للموازنة تدخل في  صلب عمود الشعر ونهج القصيدة القديمة، ولما كان البحتري أكثر قربا من تلك الاعتبارات في نظره، كان شعره أقرب إلى نفسه، غير أنه انخدع لكون شعر أبي تمام أقرب كذلك إلى العمود، وهو ما يجعل الفرق بينهما في الدرجة لا في النوع كما ذكر الأستاذ عبد القادر حمدي، وهذا ما جعل هذه الموازنة محاكمة إيديولوجية وانعكاسا للتصورات الأدبية والسياسية الاجتماعية السائدة، كما جعلت موضوع السرقات الشعرية وعمود الشعر ونهج القصيدة القديمة وسيلة للحماية الأدبية،"systeme de blocage"من كل عوامل التغيير؛ فالمدخل الأدبي من مداخل البناء السياسي والإيديولوجي للمجتمع .
-إن اعتماد الآمدي في السرقات على فصل المعاني عن الألفاظ تارة أو العكس تارة أخرى في تخريجاته، وأحكامه، فيه من الملاحظات الشيء الكثير، ومن أهمها أنه فصل ما لا ينفصل، واعتمد على قضية اللفظ والمعنى،  ولو قدر لهذه المحاولة الهامة أن تأتي بعد عبد القاهر الجرجاني ونظريته في النظم، وما سيضفيه التناول الأسلوبي لها ما كانت لتسير في هذا المسار.
-إن اعتماد معياري عمود الشعر ونهج القصيدة أثر على الشعراء، وضيق من مجال تصرفهم وتناولهم للغة الشعرية والمعاني، وهو ما أدى إلى نمذجة الإبداع وإعاقة الخيال.
- لم يستطع الآمدي أن يخرج من عباءة الإنسان العربي القديم الذي ظل وفيا لنظرته التجزيئية للكون الطبيعي واللغوي؛ فتعامله مع أبيات شعرية مجزأة عن جسمها الطبيعي وسياقها اللغوي والمقامي جعل الموازنة وموضوع السرقات يأخذ مسارا مختلفا ، وهو ما يحيل على محاولات أم جندب النقدية القديمة.
- أظهر تناول موضوع السرقات مسألة الانسجام بين الصيغ التوفيقية الكفيلة بربط الأحكام بالتعليل أو العكس عند الآمدي، وهو ما يجعل القارئ يرى عدم انسجام المعايير المبثوثة في متن الكتاب وإسناد السرقات؛ فمن جهة، يصرح بأن تلك المعايير لا تؤثر في إسناد السرق، ومن جهة أخرى يقوم بإسناد فعل السرق في المتن تحت مسمى الأخذ تأدبا.
-لم يكن أبو تمام بعيدا عن عمود الشعر بالشكل الذي تصوره الآمدي، وهو ما يجعله ينخدع باحتيالات البحتري الشعرية؛ فكلاهما مولعان بالصنعة كما قال ابن رشيق في باب المطبوع والمصنوع من الشعر في "العمدة".  
- موضوع السرقات الشعرية أبعد مما تصوره النقاد العرب الأقدمون، فهذه الظاهرة تعكس صراع القديم الثابت مع الحديث المتجدد في إطار المحاكاة، واختلاف الرؤية للعالم. وفي جانبها الإجرائي،  تعكس تحاور النصوص أو ما يسمى "التناص"، ولا يمكن لأي إنتاج أدبي أن يحصل بعيدا عنه، مما يجعل منه مادة مفتوحة على مزيد من البحث؛ خاصة إذا تم تحويله من قضية سجالية محكومة بمنطق الترافض إلى قضية مثمرة محكومة بمنطق الترافد وذلك على ضوء ما وصلت إليه اللسانيات الحديثة وعلم النفس،كما تفتح الباب على ما هو أكثر من هذا؛ وخاصة السرقات النقدية والبلاغية.








1: ابن منظور، لسان العرب، تحقيق عبد الله علي الكبير، ومحمد أحمد حسب الله، وهاشم محمد الشاذلي، دار المعارف - القاهرة، مادة: [س.ر.ق].

: محمد مصطفى هدارة، مشكلة السرقات في النقد الأدبي ، مكتبة الأنجلو المصرية،1958 ، ص 6.[2]
:نفس المرجع،ص 77.[3]
:الآمدي، الموازنة بين الطائيين،تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد،1944،ص10.[4]
: نفسه، ص 50،ص 313. [5]
: نفسه، ص: 124  و 273 . [6]
:نفسه، ص50.[7]
:نفسه،ص 52.[8]
:نفسه ص 53.[9]
:نفسه ص 73.[10]
:نفسه ص 77
[11]

سؤال التنظير في الممارسة السياسية للأحزاب الإسلامية بدول الربيع العربي.

- السعيد رشدي
http://www.maghress.com/alraiy/2427
Rochdi_04@hotmail.com

هذا المقال منشور مع بعض التعديلات في جريدة الرأي المغربية بتاريخ 24 غشت 2013. 

القياس والسماع في كتاب "معاني القرآن" للفراء. سورة البقرة نموذجا

إعداد:  رشدي السعيد
شخصية الفراء شخصية متفردة ومتميزة، ولا شك أن هذا التميز لن يتبدى بغير الوقوف على بعض مظاهر منهجه الفكري، ومقاربة موضوع السماع والقياس تحيلنا على جانب من جوانب شخصيته الفكرية ومنهجه وطبيعة المقاربة اللغوية التي انتهجها في تناول النص القرآني، كما تحيلنا على طبيعة حضور اللغة في كتابه "معاني القرآن".
                              I.            في مفهوم السماع والقياس
ü    في مفهوم السماع:
جاء في "الاقتراح" للسيوطي [1]أن السماع "هو ما ثبت في كلام من يوثق بفصاحته؛ فشمل كلام الله تعالى، وهو القرآن ، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وكلام العرب قبل البعثة وفي زمنه وبعده." ويتفرع عن هذه الأصول خمسة مصادر أساسية، هي التي تسمى مصادر السماع، وهي: القرآن الكريم، القراءات القرآنية، الحديث النبوي، النثر والشعر في زمن وحيز معينين .
ü    في مفهوم القياس:
جاء في الاقتراح [2]عن ابن الأنباري أن القياس هو: "حمل غير المنقول على المنقول، إذا كان في معناه" .
وفيه قال ابن الأعرابي كذلك: "النحو علم بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب، فمن أنكر القياس فقد أنكر النحو".
وقبل عرض نماذج تطبيقية من كتاب الفراء لابد من الإشارة إلى الاختلاف في منهج المدرستين البصرة والكوفة؛ فالبصريون يقيسون على المسموع إذا كان كثيرا، ويتسعون فيه، ويتورعون في الأخذ عن الأعراب ، ولا يقيسون على القليل كما هو حال الكوفيين، أما الكوفيون فقد يقيسون على الشاهد الواحد.  فالقياس إذن مقدم على السماع عند البصريين، والسماع مقدم على القياس عند الكوفيين، وأود الإشارة إلى تداخل السماع بالقياس؛ إذ يعتمد كل واحد منهما على الآخر، ولا بد من التفريق بينهما انطلاقا من كون القياس عملية عقلية تربط حكم المسألة اللغوية، التي يمكن اعتبارها فرعا، بأصل في الحكم لوجود علة مشتركة، ومن أمثلة ذلك سنعرض مسألة الزنبورية اختصارا :"كنتُ أظنُّ أن العقرب أشد لسعة من الزُّنبور فإذا هو هي أو فإذا هو إياها "
قال سيبويه : فإذا هو هي ولا يجوز النصب .
فقال له الكسائي لحنت ليس هذا من كلام العرب, والعرب ترفع ذلك كله وتنصبه.
فدفع سيبويه قول الكسائي، ولم يقبل به .فقال يحيى بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن ذا يحكم بينكما؟ فقال الكسائي: هذه العرب ببابك قد اجتمعت من كل صوب وهم فصحاء الناس , يُحضرون فيُسألون، فقال يحيى: قد أنصفت , فأمر أن يُحضروا، فدخلوا وسئلوا عن المسائل، ووافقوا الكسائي .

       وما يمكن استنتاجه أن سيبويه اعتمد القياس في المسألة؛ باعتبار ورود مثل هذه الحالة في القرآن الكريم في قوله تعالى في سورة الأعراف الآية 107: "فألقى عصاه فإذا هي ثعبانُُ ونزع يده فإذا هي بيضاءُ"؛ لأنه ألحق المسألة اللغوية بالآية في الحكم الإعرابي "الرفع" لتشابه العامل أو العلة في المسألة والتي هي الإسناد، (العامل هو العلة وبحث في العلة، والعامل في المعمول كالعلة العقلية في المعلول) فرفع الخبر "ثعبان" و"بيضاء" تم على الابتداء، وهو ما حصل في الجملة/المسألة، أما استناد الكسائي إلى حكاية الأعراب فهو سماع، ونلاحظ كيف تم التوسع فيه؛ لأن أعراب الكوفة لا يعتد بهم في الاستشهاد عند البصريين.

هكذا نستنتج أن السماع لا بد منه في القياس، والقياس لا بد فيه من السماع، وبالتالي فالفرق هو ما يعتد به، فيعتد البصريون بالقياس على المسموع الكثير، ويعتد الكوفيون بالمسموع النادر.
                           II.            التعليل في كتاب معاني الفراء
وإذا رجعنا إلى كتاب "معاني القرآن" للفراء فأول ملاحظة هي أن النحو كان منطلقه الأول في الوصول إلى المعاني، ولبيان ذلك سنقف على أمثلة تطبيقية من "سورة البقرة":
أول شيء لا بد من الانتباه إليه هو التعليل؛ لأن من دونه لن نصل إلى القياس ذلك فنلاحظ في المثال التالي قوله[3]:
قوله تعالى :" الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ ... (2)
الهجاء موقوف في كل القرآن، وليس بجزم يسمّى جزما، إنما هو كلام جزمه نيّة الوقوف على كل حرف منه، فافعل ذلك بجميع الهجاء فيما قلّ أو كثر. وإنما قرأت القُرّاء «الم اللَّهُ» في «آل عمران» ففتحوا الميم لأن الميم كانت مجزومة لنيّة الوقفة  عليها ، وإذا كان الحرف ينوى به الوقوف نوى بما بعده الاستئناف ، فـكانت القراءة «ا ل م اللّه» فتركت العرب همزة الألف من «اللّه» فصارت فتحتها في الميم لسكونها ، ولو كانت الميم جزما مستحقّا للجزم لكسرت ، كما فى «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ»".

يقول الفراء رحمه الله إن حروف التهجية تجزم بنية الوقوف عليها، لا لأنها مجزومة، فتقول ألفْ لامْ ميمْ، فنلاحظ أن الآية انتهت، والذي يليها هو حركة الفتح في الذال بعد ذلك، أما إذا لقيها وصل فإن الوصل يَحذِف  حركتها، ويجعل مكانها حركة الألف؛ كفي قوله: "فتركت العرب همزة الألف من «اللّه» فصارت فتحتها في الميم لسكونها"، بمعنى أن ما عليها ليس بجزم لأنه لو كانت الميم مجزومة لكسرت في "قيل ادخلِ الْجنة".  وإذا قيل إن الهمزة في الله همزة قطع فإن كثرة استعمالها يحذفها.
       فنلاحظ:
التعليل: وهو تعليل السبب الذي حمله على رأيه، وهو الذي تم بيانه، وقد تم بمجموعة من الحروف من بينها: ل، أن، إنما، ف، وهي من الحروف الأحادية والثنائية والثلاثية. والتعليل بالتركيب الشرطي المتكون من جملة الشرط وجملة جواب الشرط كفي قوله: وإذا كان الحرف ينوى به الوقوف نوى بما بعده الاستئناف.
هكذا يمكن الوقوف على الملاحظات التالية:
ü    تقديم الحكم على العلة.
ü    التعليل بالكثرة من كلام العرب.
ü     الاستشهاد بالقرآن الكريم.
ü    الاهتمام بالحركة الإعرابية والإعراب عموما.
ولا يرتبط التعليل في الكتاب بالكثرة فقط بل يتعداه إلى:
ü            التعليل بالخفة والثقل في المثال: وقوله : تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ... (118)
يقول : "تشابهت قلوبهم  في اتفاقهم على الكفر. فجعله اشتباها. ولا يجوز تشّابهت بالتثقيل لأنّه لا يستقيم دخول تاءين زائدتين في تفاعلت ولا في أشباهها.

وإنما يجوز الإدغام إذا قلت في الاستقبال : تتشابه (عن قليل) فتدغم التاء الثانية عند الشين.

ü    التعليل بالتشديد: كفي الآية 78: "لا يعلمون الكتاب إلا أمانيَّ"
 يقول الفراء: "فأما في العربية فإن من العرب من يخفف الياء فيقول:< إلا أمانيَ وإن هم> ومنهم من يشدد، وهو أجود الوجهين.[4]"    
ü    التعليل بالقبح والكراهة: كفي الآية 102: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ..
يقول الفراء: "من في موضع رفع وهى جزاء  لأن العرب  إذا أحدثت على الجزاء هذه اللام صيّروا فعله على جهة فعل. ولا يكادون يجعلونه على يفعل كراهة أن يحدث على الجزاء حادث وهو مجزوم ألا ترى أنهم يقولون : سل عمّا شئت ، وتقول : لا آتيك ما عشت ، ولا يقولون ما تعش لأن «ما» في تأويل جزاء
"ولقد علموا لمن اشتراه"

ü   التعليل بالقوة: يقول الفراء وقوله : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ  رفعن وأسماؤهن  في أوّل الكلام منصوبة لأن الكلام تمّ وانقضت به آية ، ثمّ استؤنفت «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» في آية أخرى ، فكان أقوى للاستئناف ، ولو تمّ الكلام ولم تكن آية لجاز أيضا الاستئناف قال اللّه تبارك وتعالى : «جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً. رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ»  «الرَّحْمنِ» يرفع ويخفض في الإعراب، وليس الذي قبله بآخر آية. فأما ما جاء في رؤوس الآيات مستأنفا فكثير من ذلك قول اللّه : «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ» إلى قوله : «وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» ، ثم قال جل وجهه : «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ» بالرفع في قراءتنا ، وفى حرف ابن مسعود «التائبين العابدين الحامدين». وقال: «أَ تَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ». يقرأ بالرفع والنصب على ما فسّرت لك. وفى قراءة عبد اللّه «صمّا بكما عميا» بالنصب.
ونصبه على جهتين إن شئت على معنى : تركهم صمّا بكما عميا ، وإن شئت اكتفيت بأن توقع الترك عليهم في الظلمات ، ثم تستأنف «صما» بالذمّ لهم.

والعرب تنصب بالذمّ وبالمدح لأن فيه مع الأسماء مثل معنى قولهم : ويلا له ، وثوابا له ، وبعدا وسقيا ورعيا.

هذه نماذج من أشكال التعليل وأسبابه عند الفراء، وليست للحصر وإنما هناك أشكال أخرى كالتعليل بالتوهم، والتعليل بالقراءة القرآنية، والتعليل بالذوق الشخصي؛ فكثيرا ما يردد والرفع أجود عندي، وغيرها.
             III.                        القياس عند الفراء
 بعد أن بينت العلة وأشكالها أكون قد بينت ركنا من أركان القياس الأربعة ومما لا شك فيه، أن القياس عملية منطقية، ومبادئ المنطق تدخل ضمن الكليات التي يشتغل بها العقل الإنساني على اختلاف لغاته وأعراقه وجنسه، والقرآن الكريم حافل بالآيات الداعية إلى استخدامه، ومنها قوله تعالى : "إِذَا تَنازَعْتُم في شَيء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ والرسولِ"[5] وقال كذلك : "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ"[6].
وقد عرفه المسلمون منذ بداية الدعوة، ونفذ إلى مختلف مجالات حياتهم وعلومهم؛ ومنها اللغة التي اقترن فيها القياس باسم ابن أبي إسحاق الحضرمي، وأخذ به النحاة من بعده على اختلاف مذاهبهم.
       والقياس عند الفراء عملية لغوية وعقلية تربط حكم المسألة اللغوية بأصل في الحكم لعلة جامعة، غير أن تجلياته في الكتاب لها طابعها المميز والتي تعكس توجهه الفكري واللغوي؛ ويظهر ذلك من خلال عرض تجليات أركانه الأربعة في الكتاب، فقد جعل الفراء المقيس عليه بالدرجة الأولى في القرآن الكريم وذلك بشكل كبير؛ ومن أمثله ذلك في سورة البقرة الآية:
ü   القياس على القرآن الكريم:
يقول الفراء:[7]
 وقوله : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ... فإنما ضرب المثل - واللّه أعلم - للفعل لا لأعيان الرجال ، وإنما هو مثل للنفاق فقال : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ولم يقل : الذين استوقدوا. وهو كما قال اللّه: «تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ»، وقوله : «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ»  فالمعنى - واللّه أعلم - : إلا كبعث نفس واحدة ولو كان التشبيه للرجال لكان مجموعا  كما قال : «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ».
ü    أركان القياس:
المقيس: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً.
الحكم: فإنما ضرب المثل - واللّه أعلم - للفعل لا لأعيان الرجال ، وإنما هو مثل للنفاق
المقيس عليه: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ»
العلة: ولو كان التشبيه للرجال لكان مجموعا 
وبينه بقياس آخر على : «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ».
وهذا النوع من القياس يسمى القياس على النقيض.

ü   القياس على كلام العرب:
     وقوله[8] : فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ يقول الفراء : ربما قال القائل : كيف تربح التجارة وإنما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بيعك وخسر بيعك ، فحسن القول بذلك لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة ، فعلم معناه. ومثله من كلام العرب : هذا ليل نائم. ومثله من كتاب اللّه : "فَإِذا عَزَمَ الْأَمْر"ُ وإنما العزيمة للرجال ، ولا يجوز الضمير.
ü    أركان القياس
المقيس: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ.

المقيس عليه: كلام العرب : ربح بيعك وخسر بيعك.
التعليل: لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة.
الحكم: فعلم معناه، وإنما يربح الرجل التاجر.
هذه نماذج من القياس على القرآن الكريم وكلام العرب، وهناك أخرى من القياس على الشعر وغيره.
       وقد استعمل الفراء القياس النحوي للوصول إلى المعاني التركيبية والصرفي للوصول إلى المعاني الصرفية، ولا يتسع المجال للوقوف على كل هذه الأشكال بالشرح والتوضيح.
                          IV.            السماع في معاني القرآن
ü    المثال الأول:
يقول الفراء:[9] وقوله "لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها."

الوُسع اسم في مثل معنى الوُجد والجُهد. ومن قال في مثل الوُجد: الوُجد ، وفي مثل الجُهد : الجُهد قال في مثله من الكلام : «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها».

ولو قيل : وَسعها لكان جائزا ، ولم نسمعه.

إذن نلاحظ كيف نحا نحو السماع لإثبات الضمة على الوُسع، غير أنه جوز الفتح وقال: ولم نسمعه.
ü   المثال الثاني:
"كيف نَنشرها"
يقول الفراء : نَنْشُزُها قرأها زيد بن ثابت كذلك، والإنشاز نقلها إلى موضعها.
وقرأها ابن عباس «ننشرها». إنشارها : إحياؤها. واحتجّ بقوله : «ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ»  وقرأها الحسن - فيما بلغنا - (ننشرها) ذهب إلى النشر والطي. والوجه أن تقول : أنشر اللّه الموتى فنَشروا إذا حَيُوا ، كما قال الأعشى : 

يا عجبا للميت الناشر

و سمعت بعض بني الحارث يقول : كان به جَرَبُُ فنَشَرَ ، أي عاد وحيى.

ü    المثال الثالث :
وقوله [10]: "أَوْ أَكْنَنْتُمْ" للعرب في أكننت الشيء إذا سترته لغتان: كننته وأكننته ، قال : وأنشدونى  قول الشاعر : 

ثلاث من ثلاث قُدامِيات من اللاتي تَكُنُّ من الصقيع

ü          المثال الرابع:

«سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ» [11] - «وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ»  وما أشبهه ، وقد تسقط العرب الواو وهى واو جماع ، اكتفى بالضمّة قبلها فقالوا في ضربوا : قد ضرب ، وفى قالوا : قد قالُ ذلك ، وهى في هوازن وعليا قيس أنشدني بعضهم : 

إذا ما شاء ضرّوا من أرادوا ولا يألو لهم أحد ضرارا

ü          المثال الخامس:
وقوله : لِكُلٍّ وِجْهَةٌ [12]...

العرب تقول : هذا أمر ليس له وجهة ، وليس له جهة ، وليس له وَجْه وسمعتهم يقولون : وجِّه الحجر ، جِهَةُ مالِه ، ووِجْهةُ ماله ، وَوَجْهُ ماله. ويقولون : 

ضعه غير هذه الوضعة ، والضِّعة ، والضَّعَة. ومعناه : وجَّه الحجر فله جهة وهو مَثَلُُ ، أصله في البناء يقولون : إذا رأيت الحجر في البناء لم يقع موقعه فأدره فإنك ستقع على جهته. ولو نصبوا على قوله : وجِّهه جِهَتَهُ لكان صوابا.

خاتمة
       هكذا ورد السماع والقياس بشكل كبير في السورة والكتاب بصفة عامة، فعكس هذا التوجه سمة البحث اللغوي عند الفراء المعتمدة على التعليل بالخفة والثقل، والضعف والتشديد والقوة، والقبح والكراهة، والإجادة، فعكست هذه التعليلات، وهذه المعايير طبيعة اشتغال اللغة العربية، وطبيعة الإنسان العربي الميال للإيجاز ليس في التركيب فقط بل كذلك في الأصوات، والكلمات، والحركات, كما تَظهر شخصيته من خلال الطريقة التي تناول بها مواضيع القرآن؛ من حيث السماع أساسا والقياس كذلك، وعدم الميل إلى الحجاج، والجدل، والمسائل الأصولية؛ كالأحكام وغيرها.
       إن شخصية الفراء عكست طبيعة الإنسان العربي في تعامله مع اللغة المبنية على الفطرة والذوق والمنطق، فكان ذلك مَعبره الأساسي لولوج  النص القرآني، ولم يكن هذا المعبر خاصا به وحده بل كان خصيصة كل كتب معاني القرآن بصفة عامة، غير أن ما ميز كتاب الفراء هو ما حمله من مميزات التفكير اللغوي الكوفي بكل خصائصها المنهجية؛ مضمونا، واصطلاحا، وأصولا ،ومنهجا.    
ملاحظة : قدم هذا  الموضوع أمام أستاذنا الفاضل الدكتورعبد الجليل هنوش بتاريخ 25 دجنبر 2013 بكلية الآداب القاضي عياض مراكش.  
المصادر:
1)   القرآن الكريم.
2)   الفراء، معاني القرآن، تقديم محمد علي النجار، أحمد يوسف نجاتي، ج1، ط3، 1983، مطبعة عالم الكتب، بيروت، لبنان.
3)   السيوطي، الاقتراح في علم أصول النحو، تعليق محمد سليمان ياقوت، دار المعرفة الجامعية، مصر.




:السيوطي، الاقتراح في علم أصول النحو،تعليق محمد سليمان ياقوت، دار المعرفة الجامعية،مصر، ط 2006،ص: 74.[1]
:نفس المصدر،ص:203.[2]
: الفراء، معاني القرآن،ج1،ط3 ،  1983 ، مطبعة عالم الكتب، بيروت لبنان، تقديم محمد علي النجار، أحمد يوسف نجاتي،ص9.[3]
الفراء، معاني القرآن،ص49.[4]
القرآن الكريم، سورة النساء،59[5]
: نفس المصدر، سورة آل عمران،59[6]

:معاني القرآن، ص:15.[7]
:نفس المصدر،ص 19.[8]
:نفسه،ص 188.[9]
نفسه ص152[10]
ص91[11]
ص90[12]