الاثنين، 26 يونيو 2017

هل يمكن الاجتهاد مع النص؟

هل يمكن الاجتهاد مع النص؟
بقلم: السعيد رشدي
بثت قناة Télé Maroc المغربية  يوم 23 يونيو 2017 برنامجا استقبلت فيه صاحبته ضيفا خاصا عرف يوما بانتمائه للتيار السلفي المتشدد هو محمد عبد الوهاب الرفيقي المعروف بـ"أبي حفص"، في هذا الحوار الطريف، أطل علينا الشيخ بإشراقاته السريالية وهو يدعو إلى فتح نقاش حول قانون الإرث الإسلامي ما كان منه بالفرض أو التعصيب، وذلك في ظل التحولات الجديدة التي يعرفها المجتمع المغربي، ومن ذلك الآية 11 في سورة النساء، والتي يقول فيها الله تعالى :"يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ"فَإِن كُنَّ نسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ  فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا"[1]،  كما تساءل الشيخ عن مدى إمكانية تطبيق هذا النص المحكم في "زمن ما" من عدم ذلك في "زمن ما" بتعبيره.
 يُظهر هذا الموقف الفكري الخطير حجم الانزياح الحاصل في الخطاب الديني عند بعض السلفيين، خطاب تميز بمظهرين متضاربين مختلفين اختلاف تضاد؛ مبتدؤه التماهي مع الخطاب السلفي المتشدد في مرحلة أولى، وخبره القطيعة مع هذا الخطاب في مرحلة لاحقة والانغماس في خطاب الحداثة والانفتاح والليبرالية.
هذا التضارب والتقاطع الحاصل في مسار فكر الرجل وتحول قناعاته المعرفية بين وضعيتين شاذتين؛ التشدد من جهة والليبرالية المطلقة من جهة أخرى تجعله متشددا في كلتا الحالتين، فبين المسارين تم التغافل عن منطقة وسطى هي وسطية الخطاب الإسلامي واعتداله، وغني عن البيان أن ما دعا إليه الشيخ يطرح إشكالات تتصل رأسا بالاجتهاد تعريفا وضوابط من جهة، ومن جهة أخرى من حيث طبيعة القضايا التي يمكن الاجتهاد فيها والتي لا يمكن، بالإضافة إلى توقيت هذا المطلب المتكرر في أكثر من مناسبة، وفي هذا نقول: إن الاجتهاد مبحث  فقهي أصولي بحت، تعريفه هو افتعال من الجهد، والجهد الطاقة والمشقة كما جاء في لسان العرب[2]. وفي الاصطلاح الشرعي عند الشاطبي: "استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم" [3]؛ ومعناه بذل الوسع أو الطاقة والجهد في معرفة وتحصيل الحكم الشرعي عن طريق العلم أو الظن؛ والعلم إشارة إلى اليقين، والظن ترجيح بين أمرين أحدهما أقوى؛ فالاجتهاد بهذا المعنى هو بذل الجهد من طرف المجتهد في سبيل معرفة خطاب الله في أفعال المكلفين، وعلى هذا الأساس فإن الحكم التكليفي الذي يمكن استنباطه من قوله تعالى" يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ " هو وجوب تقسيم تركة الهالك وفق القاعدة الرياضية الآتية: "للذكر مثل حظ الأنثيين"، وهذا هو المنصوص عليه في الآية بعيدا عن إشكالات الظروف والزمن والمكان، وبعيدا عن كل ألوان التطرف الفكري؛ لأن هذا النص قطعي الثبوت والدلالة، وكل الأحكام قطعية الثبوت والدلالة، كما هو الحال هنا، لا يجوز الاجتهاد فيها؛ إذ لا اجتهاد مع النص كما يقول الفقهاء والأصوليون وعلماء الأمة.
والحكم الوارد في الآية أعلاه نص لا يقبل الجدل، والنص عند الفقهاء هو التعيين والتوقيف، وهذا هو الظاهر في الآية، ويعضد ذلك قول الشريف الجرجاني في تعريفه للنص "ما ازداد وضوحا على الظاهر لمعنى من المتكلم "[4]، وعند الأصوليين هو ما دل ظاهر لفظه عليه من الأحكام، فهل يمكن الاجتهاد مع النص؟  يقول الغزالي جوابا عن هذا السؤال :"والمجتَهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي"[5] ويدعمه قول الآمدي:" وأما ما فيه الاجتهاد فما كان من الأحكام الشرعية دليله ظني" [6]وهذا غير متحقق في الآية موضوع هذه الورقة؛ لأن الحكم الوارد فيها قطعي الثبوت والدلالة ولا يجوز صرف مدلوله الشرعي عما هو ظاهر في مدلول النص، وأما ما يجوز فيه الاجتهاد فهي النصوص ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة أو ظنية الثبوت والدلالة معا أو القضايا الحديثة التي لم يتعرض لها  النص القرآني أو الحديثي والتي لم تنل إجماع العلماء على شرط مراعاة المقاصد الشرعية المعروفة، حينئذ يمكن للمجتهد الذي تتوفر فيه شروط الاجتهاد أن يجتهد.
قد يقول قائل إن هذه الآية نزلت في ظرف خاص ولأسباب  متعلقة بحادث استشهاد الصحابي سعد بن الربيع، فكيف يتم تعميم الحكم التكليفي هاهنا؟
للوقوف عند هذا الموضوع نود الإشارة أولا إلى سبب نزولها، فقد ذكر الفخر الرازي في التفسير الكبير أن سبب نزولها هو ما روي عن "عطاء قال: استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين وامرأة وأخا، فأخذ الأخ المال كله، فأتت المرأة وقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد، وإن سعداً قتل وان عمهما أخذ مالهما، فقال عليه الصلاة والسلام: " ارجعي فلعل الله سيقضي فيه " ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمهما وقال:" أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن وما بقي فهو لك"[7]، لعل أول ما يثار في هذه الآية خصوصية سبب نزولها؛ فهي نزلت استجابة لحاجة اجتماعية تخص بنات سعد بن الربيع بعد استشهاده، ولنا أن نسائل ذواتنا هل العبرة بخصوص سبب نزولها أم بعموم لفظها، ذهب الأصوليون الأقدمون والمحدثون إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا النزر اليسير، ومقتضى هذه القاعدة الفقهية وجوب تعميم مضمون الآية على عموم المسلمين دون اعتبار خصوصيات الأمكنة ولا ظروف الزمن ولا تغير الأحوال، لا حصر تطبيقها على عائلة سعد بن الربيع فقط، يقول الرازي:" وإما إذا كان الجواب أعم في غير ما سئل عنه فلا شبهة في أنه يجري على عمومه وأما إذا كان الجواب أعم مما سئل عنه فالحق أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"[8]. وعلى هذا الأساس، فإن هذا الحكم الشرعي ملزم لعموم المسلمين وليس لعائلة سعد الشهيد فقط؛ إذ عمومية لفظه جرّته على عموم المكلفين وبشكل ثابت وبدون اعتبار سبب النزول ولا خصوصية زمنه أو مكانه أو حاله حتى ولو تغيرت أحوال المجتمعات وتبدلت باعتبار الزمن أو التاريخ أو قوانين التطور، لأن التفكير أو الإيمان بمبدأ تاريخية النصوص القرآنية* مسألة خطيرة على مستوى الكلام الإلهي والمتكلم به (الله)؛ وذلك لما يؤدي إليه من الانتقاص من قدرته وعلمه المطلق وإحاطته، تنزه الله جل وعلا عن ذلك، ومن وقع فيه فقد أعظم الافتراء على الله بغير علم.
ويظهر النظر في هذه الآية أهميتها الدينية والاجتماعية؛ لأنها تتضمن قسما هاما من أقسام فرائض الدين، وهي فرائض الإرث؛ أي ذلك النصيب المقدر للوارث في مال الهالك شرعا وفرضا لا تعصيبا، هذا النصيب الذي تولى الله سبحانه بيانه وتوزيعه بالقسط على العباد بنفسه ولم يتركه لرسوله ولا لاجتهاد الفقهاء والعلماء بمقتضى علمه المطلق وحكمته وإحاطته، وقد تم ذلك بأسلوب واضح ومحكم، وشاء أن يتولاه بنفسه بعد أن بينت جاهلية ما قبل النبوة والأحكام والقوانين الوضعية قصورها في حفظ الحقوق وصيانتها وإيصالها لأهلها، خاصة ما كان يتعرض له المرء من ألوان الظلم والمنع من الإرث بذرائع شتى؛ متعلق بعضها بالجنس(الإناث) أحيانا وبالسن(الصغار) أو ترتيب ذوي الحقوق في أحايين أخرى؛ فكانت تحرم الأنثى وكان يحجر على الصغير غير القادر على المشاركة في القتال والضعيف....
 وجعْل مطلب مراجعة هذه النصوص موضوعا للنقاش اليوم على لسان هؤلاء الذين يدّعون اهتمامهم بحقوق الإنسان في المؤتمرات تقريظا ويغتصبونها تأدية وتطبيقا، يأتي في سياق عالمي تعالت فيه أصوات وترددت هنا وهناك تستهدف هذا الركن الأعظم من تشريع الله، أصوات أجنبية مباشرة أحيانا وداخلية بالوكالة أحيانا أخرى، هذه الأصوات تضمر العداء وتظهر الدفاع عن حقوق الإنسان والشعارات الجوفاء، غايتها تسلق المناصب والجني والاكتساب، وهؤلاء هم الأخطر اليوم على الأمة، لأنهم استبدلوا البناء بالهدم فضعف الطالب والمطلوب، إن مطلب مراجعة علم الفرائض على ضوء مستجدات العصر يتغيا انتزاع هذا العلم وجعل التصرف فيه يتم وفق الأهواء، وهذا لن يحصل، بإذن الله، من المسلمين علمائهم وعامتهم؛ فقد نبه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، ومن ذلك ما رواه الدارقطني عن رسول الله بقوله :"تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم وهو أول شيء ينسى وهو أول شيء ينتزع من أمتي"[9] وروي عن عبد الله بن مسعود قول رسول الله:" تعلموا القرآن وعلموه الناس وتعلموا الفرائض وعلموها الناس وتعلموا العلم وعلموه الناس فإني ٱمرؤ مقبوض وإنّ العلم سيقبض وتظهر الفِتَن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يفصل بينهما"[10]، والمقصود بالفرائض هذا العلم.
  ومنطوق النصين الحديثيين يظهر أهمية تعلم أحكام الإرث في الإسلام وبيان مقتضياتها وما فيها من عدل مطلق بين الذكور والإناث وبين الصغار والكبار، ونلفت النظر إلى أن بيان ذلك تولاه العلماء منذ قرون ومازالوا؛ فبينوا عدل الإسلام في توزيع الميراث، وأما الرد على هؤلاء فكان الفضل فيه لكثير من العلماء المعاصرين منهم العالم الفاضل مصطفى بنحمزة الذي تفضل في كثير من المناسبات ببيان حقيقة نظام الإرث في الإسلام، والمساواة في الإرث، وسعادة المرأة في اختيار نظام الإرث في الإسلام، وهي مواضيع نشرتها مجموعة من المنابر الإعلامية.
  وأحكام الإرث تدخل في الفرائض المصرح بها في القرآن الحكيم ضمن الآيات المحكمات، ومحكمات القرآن هي الآيات واضحة الدلالة في مقابل المتشابهات وليس ما هو ثابت في القرآن، يقول تعالى:" هُو الذي أَنزل عليكَ الكتابَ منه آياتٌ محكماتٌ هنّ أم الكتاب وأخر مُتشابهات" هذه الآيات أحكامها قطعية؛ لأنها قطعية الثبوت والدلالة معا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال جعلها في مرمى الاجتهاد بحجة حصول التحولات الاجتماعية وتحرر المرأة وعملها خارج المنزل وإنفاقها وتغير أحوال معاش العباد.
يطرح حديث الشيخ عن أحكام القرآن قطعية الثبوت والدلالة ومدى إمكانية تطبيقها باعتبار الزمن إشكالات خطيرة متعلقة بالزمن والقرآن، هل القرآن صالح لكل زمان؟ وما علاقة الزمن بالقرآن؟  أليس القرآن متعاليا عن الزمن؟
يعد الزمن من المواضيع التي اهتم بها العلم الحديث، غير أن ما يهمنا في هذا النقاش هو الزمن الفيزيائي الطبيعي والزمن النحوي وعلاقتهما بالقرآن الكريم.
القرآن والزمن الفيزيائي: علاقة القرآن الكريم بالزمن الفيزيائي مازالت لم تحظ بالدراسة العلمية الكافية، خاصة إذا نظرنا إلى القرآن باعتباره كلاما إلهيا قديما، والقدم من الصفات الإلهية التي لم يختلف فيها العلماء، والتي تفيد أولية الله سبحانه وتعالى وأزليته، يقول تعالى :" هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " [11]ووصف الله لنفسه بالأول والآخر لا يعني ارتباط هاتين الصفتين بالزمن أو أنهما مصوغتان وفقا لمعاييره؛ لأن هذا الأخير، أي الزمن، جزء من مخلوقاته، أقسم به في كثير من الآيات كما أقسم بغيره، وأحاط به كما أحاط بكل شيء فقدره وفق معطيات خاصة ترتبط بالأمكنة والفضاءات المتعددة ومجال حركتها؛ فكان للزمن ومتعلقاته في الأرض تقدير يتحدد بمجال الحركة حول الشمس بشكل مختلف مع بقية الكواكب؛ فالأيام والشهور والسنة تتحدد في كل كوكب باعتبار موقع ومجال حركة هذه الكواكب في علاقتها بالشمس. ووفقا لذلك، فإن الزمن الفيزيائي له تقديره الخاص، وكينونته لا تتحدد إلا بالمكان وحركته، وخارج هذا الإطار لا يمكن الحديث عن الزمن.
إن ارتباط القرآن الكريم بالله تعالى وقدمه يجعله كلاما مُخضعا للزمن وليس خاضعا له؛ وذلك بخلاف كل المخلوقات والأشياء التي ينسحب عليها طارئ الزمن؛ فكلام الله محيط بقصة الخلق من البداية إلى النهاية، وهو ما توضحه مجموعة من الآيات، منها قوله تعالى:"أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ"[12]، هذه الآية الكريمة تصور حدوث يوم القيامة كأنه حقيقة ثابتة متحققة بالمعرفة الضرورية، وإن كان هذا اليوم في طور الانتظار بالنسبة للإنسان في الزمن الطبيعي؛ هذه الآية توعد فيها الله الكافرين بسبب استهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، يقول ابن عاشور:"  صدّرت السورة بالوعيد المصوغ في صورة الخبر بأن قد حلّ ذلك المتوعد به. فجيء بالماضي المراد به المستقبل المحققُ الوقوع بقرينة تفريع { فلا تستعجلوه } ، لأن النهي عن استعجال حلول ذلك اليوم يقتضي أنه لما يحل بعد."[13]، ومنه يتضح أن الله سبحانه وتعالى يصور أخبار الخلق والكون وفق ما شاء في الزمن؛ فيصورها أحيانا في الزمن الماضي وأحيانا في زمن المستقبل وقد يخبر عن المستقبل بالماضي لأغراض بلاغية منها ما عُلم ومنها مازال ينتظر الفهم والإفهام؛ فنستنتج أن الله متعال بذاته وكلامه عن الزمن؛ إذ لم يجعل الزمن يجري عليه وعلى كلامه جريانه على مخلوقاته.
هذه الحقيقة العلمية الثابتة تظهر أن القرآن الكريم في علاقته بالزمن يسير وفق نظام خاص قائم على الإخضاع لا الخضوع، وهذا ما يجعل تكييف مقتضياته وأحكامه لتحولات الزمن انتقاصا من قدرة الله وسعة إحاطته وحكمته وعلمه المطلق، يقول تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام:" وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ"[14] وسعة علم الله بالأشياء يجعل علمه محيطا بالزمن في ما مضى منه وفي ما هو آت.
القرآن الكريم والزمن النحوي: تتصل هذه العلاقة بين القرآن الكريم والزمن على مستوى أسلوب سرد وحكي الأحداث في القرآن الكريم وبناء الأفعال، ولإيضاح تَعَالِي القرآن عن الزمن وإخضاعه له على عكس المتصور فإنا سنقف عند قوله تعالى :"  مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"[15]، يوضح الله تعالى في هذه الآية أن ما عند الإنسان على سبيل الاستخلاف من مال وعُمر وممتلكات عقارية وغير ذلك ينفد، ولبيان هذا النفاد وكيفيته وسرعته عبّر الله تعالى عنه بتوظيف الزمن الحاضر"ينفد" والذي يعبر عنه نحويا بالمضارع، هذا الزمن اللغز يعرف في مجال القياس بسرعة نفاده وعدم ثبوته على حال؛ فالزمن الطبيعي لا يلبث أن يكون إما مستقبلا قادما أو ماضيا منتهيا، أما المضارع فلا وجود فيزيائي مستقر وثابت له؛ إذ سرعان ما ينفد وينقضي، وهذا حال مال الإنسان وعمره وزمنه، فكان تعبير الله عن هذا المعطى بالمضارع خير بيان لتلك الدلالة، وأما ما عند الله مما خلق وسيخلق فهو باق، وهذا البقاء مستقل عن الزمن ولا يخضع لجريانه عليه إطلاقا بل يتعالى عنه لأنه باق لا ينفد، وقد عبر الله تعالى عن هذا المعنى باسم الفاعل "باق" بدلا من "يبقى"، وبهذا التعبير القرآني جُرّد حدث البقاء من الزمن؛ بأن انزاح من الفعل إلى اسم الفاعل حتى لا يخضع لشروطه، وصار باقيا بالقوة.
 وبذلك يظهر أن قضية الاجتهاد وعلاقته بالنصوص القطعية علاقة محسومة، لا تتأثر ولا يجب أن تتأثر بمعطيات التحول والتطور داخل المجتمعات، وأن الزمن في القرآن الكريم يخضع لمقتضيات خاصة يظهر فيها القرآن متعاليا كما يظهر فيه الزمن خاضعا طائعا؛ فالقرآن الكريم كلام صادر عن عقل مطلق يقدم الزمن وفق تصور محكم يبرز تعالي الخطاب الإلهي وصلاحيته لكل الحقب، وعلى هذا فإن وضع الأحكام الشرعية قطعية الثبوت والدلالة بسبب التطور والتحولات في مرمى الاجتهاد مسألة خطيرة، وأن ما يمكن أن يتناوله الاجتهاد هو ما يرتبط بفقه النوازل التي تتصل قضاياه ونوازله اتصالا واضحا بظني الثبوت والدلالة من الأحكام أو ما لم يحصل عليه إجماع علماء الأمة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.       
 المصادر والمراجع
1.   القرآن الكريم.
2.   ابن منظور، لسان العرب، دار صادر بيروت، 1414.
3.   الشاطبي، الموافقات، تحقيق أبي عبيدة آل سلمان، دار ابن عفان، ط1، 1997.
4.   الجرجاني، التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت 1983.
5.   الغزالي، الميتصفى، دار الكتب العلمية 1993.
6.   الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
7.   الفخر الرازي، التفسير الكبير،دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420.
8.   الفخر الرازي، المحصول في أصول الفقه، تحقيق طه جابر العلواني ، مؤسسة الرسالة.
9.   الشوكاني،  نيل الأوطار، دار الحديث،1993، ط1.
10.         النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، دار المعرفة ،1998، ج5، ص:475.
11.         ابن عاشور، التحرير والتنوير، دار سحنون، تونس.
*: من كبار المنادين بهذا المبدأ نذكر محمد أركون، وللتوسع في موضوع "تاريخية النص" يمكن العودة لـ :"نقد النص" عند علي حرب، أما موضوع تاريخية النص القرآني يرجى العودة لأركون: "القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني"، "تاريخية الفكر العربي الإسلامي".





[1] - النساء، 11.
[2] : ابن منظور، لسان العرب، دار صادر بيروت، 1414،(ج.ه.د)
[3]: الشاطبي، الموافقات، تحقيق أبي عبيدة آل سلمان، دار ابن عفان، ط1، 1997 ،ج5، ص: 51
[4] : الجرجاني، التعريفات، دار الكتب العلمية، بيروت 1983 ص:241
[5] - الغزالي، الميتصفى، دار الكتب العلمية 1993، ص: 486
[6] -الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ج4، 171.
[7] - الفخر الرازي، التفسير الكبير،دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420،  ج9، ص:509
[8]: الفخر الرازي، المحصول في أصول الفقه، تحقيق طه جابر العلواني ، مؤسسة الرسالة ج3، ص: 124-125 .
[9]-  الشوكاني،  نيل الأوطار، دار الحديث،1993، ط1،ج6، ص:65.
[10] - النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، دار المعرفة ،1998، ج5، ص:475.
[11] -الحديد، 3.
[12] -النحل، 1,
[13] - ابن عاشور، التحرير والتنوير، دار سحنون، تونس، ج15، ص:96
[14] - الأنعام، 80.
[15] -النحل، 96.

الثلاثاء، 7 فبراير 2017

مركز ومسجد "خديجة" الكيبك، كندا.

مركز ومسجد "خديجة" الكيبك، كندا.
لو سُئل الشاب الذي هتك حرمات مركز خديجة الثقافي بالكيبك وسفك دماء مرتاديه عن أسباب فعله سيقول فورا: قمت بأفعالي بدافع الانتقام، وقد يقول: بدافع الكراهية، وقد يقول غير ذلك. ومهما كان الأمر فإن لسان حال الحادث أبلغ من لسان مقاله؛ فما وقع في مركز "خديجة" بالكيبك أكبر من أن تسعه اللغة وأن يشمله الوصف؛ لأنه تجسد فيه فعل فاسد ناتج عن جهل القلب والعقل والجسد ورد فعل إنساني واجب الحدوث، فاعله ظالم مظلوم، ومفعوله مظلوم عُدّ ظُُلْمًا ظالما، فكانت نصرة الظالم والمظلوم حقا على المؤمنين، وكذلك كان الأمر، وهو ما نبغي من وراء هذا المقال.
  إن حادث سلب الحياة الذي وقع في بلد أهله يقدسون الحياة والإنسان أيما تقديس، شُهد لهم بذلك ونحن عليه أيضا من الشاهدين، تحيلنا على كثير من أحداث سفك الدماء التي عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ، والقاسم الجامع بينها اشتمالها على طرفين؛ الأول: ظالم قاتل خاسر، والثاني: مظلوم مقتول فائز، ومبتدأ حكايات القتل في التاريخ البشري كانت مع ابني آدم كما جاء في الذكر الحكيم في قوله تعالى :" وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ  لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ  إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ  فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ "[1]، لكم يصعب على الإنسان تصور مثل هذا الموقف البشري المأساوي الذي عبّر عنه القرآن الكريم تعبيرا بلاغيا خاصا من خلال توظيف حدث "البسط" مرتين في الجملة الشرطية بصيغتين مختلفتين؛ الأولى في جملة الشرط المؤكدة لما أسند البسط بصيغة الفعل إلى يد القاتل، إفادة للحركة والتجدد في الزمن وتحقيرا لآلته واستثقالا لحدثه، بدءا بابن آدم ومرورا بأحداث القتل التي عرفتها الكثير من المواقع والبلدان في العالم في الزمن القديم والمعاصر وأخيرا بالكيبك، والثانية توظيفه بالاسم(اسم فاعل) مسبوقا بالنفي في جملة الجواب إفادة لسمو فعل المظلوم وثباته وتعظيمه قبل الحدث وبعده، وأما علة هذا الاختيار فما هو بضعف ولا هوان وإنما هو ما عبر عنه الابن المظلوم بقوله إني أخاف الله رب العالمين، وهذه درجة عالية من التقوى وصلاح القلب ورجاحة العقل في مقابل فسادهما في الجهة الآخرى، وهذا هو عين الصواب؛ فالاختلاف الحاصل بين الأخوين، ابني آدم، كان سببا طبيعيا للمماراة، كما كان فاتحة للاعتداء وسلما للتعصب ومدعاة لانقطاع الأسباب، وهذا ما بينه السرد القرآني وفق ما حصل في الشرق قديما، وها هي الصحف والقنوات العالمية تعيده علينا بشخوص آخرين من الغرب.
 وحوادث القتل كما حصلت في مسجد خديجة أو غيره، في كندا أو غيرها، في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وكيفما كان القاتل أو المقتول هو حدث مرفوض في الإسلام جملة وتفصيلا؛ فهذا الدين الحنيف يقدس الحياة بأعلى مقاييس التقدير والإجلال، أو ليس حفظ الحياة من المقاصد والضروريات الخمس التي أتى الإسلام من أجلها؟ ألم يقل رب العباد : "مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ"[2]؟ أليس هذا الكلام أجلّ ما قيل عن الحياة الإنسانية في سموها وقداستها في كل الحضارات؟ هل يا ترى لو علم هذا الفتى بنفاسة هذه الرسالة ومقاصدها ونبل أخلاق حامليها سيقوم بمثل ما قام به؟ وهل بعد هذا يمكن مواجهة القتل بالقتل؟ وهل يواجه التدمير بالتدمير؟ إن حياة الإسلام بناء مرصوص لا يلحقه التدمير مهما حصل من الأسباب، ومن غرائب الصدف اقتران اسم هذا المركز باسم خديجة أم المؤمنين؛ تلك المرأة الفاضلة التي وضعت أولى لبنات البناء الدعوي؛ لما آوت الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت مسكنا له ومرجعا وحاضنة؛ وجدانيا واجتماعيا واقتصاديا وعاطفيا، دثّرته لحظة نزول الوحي ووجهته وقابلته بابن عمها ورقة، فكانت نبراسا ومساعدا وموجها محوريا في حياة الدعوة الإسلامية، ولعل هذا الدور هو سبب اختيار هذا الاسم لهذا المركز الثقافي والديني الذي سيحمل هذه القيم وسيواصل بثها بين مريديه المؤمنين وغيرهم إن شاء الله.      
       إن غايتنا من استرجاع هذا الفعل من القصص القرآني وحادث مركز خديجة ليس تمجيدا للمقتول ولا طلبا لتعزير القاتل ولكن للعبرة والاعتبار ونصرة المظلوم والدعوة للظالم ومواطنيه بالهداية والاعتبار؛ فالجاني مهما كان وكيفما سيكون، فقد لابسته الرذيلة وجانبته الفضيلة وكان طبعا من الخاسرين، وإن كان فعله هذا قد تم لا حبّا في القتل ولا كرها في المقتول ولكن جهلا به وبرسالته، هذا الجهل مس القلب والعقل والنفس والبدن فكان مقدمة للفساد، ولعل هذا هو عين ما يجب أن يكون سببا في بعث روح الحب والسلام والأمن من دواخل المسلمين أينما كانوا، فلا يتناسون أنهم رسل الإسلام، والجنوح للسلم من القواعد والأركان، " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ "[3] وبيان موقف الإسلام الصحيح في مثل هذه المحطات الصعبة لهو المطلوب وإصلاح القلوب منبع الإحسان كما يقول سلطان العلماء عزالدين بن عبد السلام، ومقابلة الشر بالخير من كمال الصفات وصفات الكمال، وأما فكرتا الحق والباطل فإنهما محققتان بنور العقل مهما كثرت المغالطات وعلا التعصب، وسلامة الإنسان الغربي "عن الخطأ ليس بمطموع فيه ولكن الطمع أن يكثر صوابه"[4].
المصادر:
1.   القرآن الكريم
2.    العامري، الإعلام بمناقب الإسلام، تحقيق: احمد عبد الحميد غراب، دار الأصالة، الرياض، السعودية، 

    




المائدة 26-30([1]
المائدة، 32.( [2]
) البقرة، 208,[3]
( . [4] التعبير مقتبس من : العامري، الإعلام بمناقب الإسلام، تحقيق: احمد عبد الحميد غراب، دار الأصالة، الرياض، السعودية،  ص:192