الخميس، 12 نوفمبر 2015

عصر الانقلابات اللغوية

(نشر هذا الموضوع بجريدة المساء العدد 2837، بتاريخ: الاثنين 23 نونبر 2015)
بقلم : السعيد رشدي
شهد المغرب، هذا الأسبوع، انقلابا لغويا صامتا بقيادة ممثلي التيار الفرنكفوني بالمغرب، هذا القرار أنزله وزير التربية الوطنية على المناهج التعليمية المغربية إنزالا، والذي بمقتضاه سيتم تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية في الثانوي التأهيلي بداية من الموسم الدراسي المقبل.
لقد أتى هذا القرار، بحسب الوزارة، تصحيحا لاختلالات المنظومة التربوية، وهذا التعليل أقبح وأعوص من جوهر الإشكال؛ لما فيه من مغالطات لا تتصل، بالعلم، بسبب؛ فاللغة العربية بريئة من اختلالات مناهج وزارة التربية الوطنية وبرامجها براءة الذئب من دم يعقوب، وبدل أن تجهد الوزارة نفسها ما وسعها الجهد في البحث عن حلول علمية وعملية للإشكال التربوي اللغوي المغربي، ها هي ترمي بنفسها في حضن المعشوق وتجعله بديلا حضاريا وثقافيا.
 إن هذا الاختيار يعد استمرارا للنهج القائم على البحث عن الحلول الجاهزة والرخيصة، الذي تتبعه وزارة التربية الوطنية، والذي تميز هذه السنة بالتشريع لما سمي بـ"الباكالوريا الدولية"، أو بالأحرى "الباكالوريا الفرنسية"، تمييزا عن "الباكالوريا المغربية"، ومع ما ينطوي عليه هذا القرار الخطير من نزوع تمييزي طبقي، وما سيسفر عنه من التهميش والإحساس الجمعي الخاطئ بتفوق الفرنسية، ودونية الباكالوريا المغربية وحامليها، على غرار ما نشهده من تمييز بين الشواهد الوطنية والدولية في التقدير والاعتبار، فإن إنزال مذكرة التدريس باللغة الفرنسية هذه يسير في هذا الاتجاه ويكرسه.
وبإقرار التدريس باللغة الفرنسية فإن جزءا من السيادة اللغوية الوطنية تكون قد انتُهكت بتواطؤ واضح من الجميع، وبمباركة من حكومة (إسلامية) التزمت لغة الصمت، ولسان حالها أبلغ من لسان مقال، إن حدث، فلن يتجاوز عتبة التنديد والشجب في أحسن الأحوال، وبذلك تعود فرنسا للمغرب من أبوابها القديمة حاملة لواء استعمار جديد، مثبتة بذلك لغةً التحرر عنها أعنى، ومقويةً لوشائج فراقها أعصى، ومدعمة لاتكالية فطامها أنكى، يحدث هذا في وقت تشهد فيه الجامعات الفرنسية أسوأ أوضاعها، كما تشهد فيه فرنسا، حكومة ومجتمعا، نقاشا لغويا عميقا يعرف زحف اللغات الألمانية والإنجليزية والصينية.
إن العودة إلى الفرنسية، اليوم، في المناهج التعليمية المغربية قرار سيكون من نتائجه القضاء على دعوات تبني اللغة الإنجليزية والتعريب، وتصفية اللغة العربية من المناهج التعليمية الوطنية، وسيأتي فيه الفرنكفونيون على أخضر هذا الوطن ويابسه، مشروع تخريبي لا يرضي غير أسيادهم الفرنسيين الذين ظلوا مناوئين للغة العربية والتعريب إلى أن تم توقيفه بعد منتصف ثمانينات القرن الماضي، واستبداله بالازدواجية اللغوية التي تمت الردة عليها اليوم والاستعاضة عنها بالفرنسية، هذه الردة هي قرار فرنسي سياسي فوقي، يخدم نفوذ الفرنكفونية التي تواجه زحفا أنجلوساكسونيا في إطار حرب اللغات القائمة بينهما على خريطة النفوذ في العالم.
 ولئن كانت اللغة الإنجليزية تقود هذه الحرب بالبحث العلمي والتواصل والتقنية، فإن فرنسا تقودها بالالتجاء إلى الأساليب القديمة القائمة على العملاء وتحصين مستعمراتها السابقة، وذلك بهدف الخروج بالفرنسية من ضيق الحدود الحاصل عليها في أوربا والالتفاف عليه جنوبا بجعل منطقة المغرب العربي خطا أماميا في معركتها اللغوية، خاصة لما تعالت في السنتين الأخيرتين أصوات رسمية من داخل المغرب والجزائر تنادي باللغة الإنجليزية بديلا لغويا عن الفرنسية، ومنها دعوة وزير التعليم العالي المغربي الحالي لحسن الداودي إلى التدريس بالإنجليزية والاهتمام بها في الجامعات، وقرار وزارة التربية الوطنية هذا هو خضوع وتنفيذ وانخراط في حرب اللغات ضد الذات والإنجليزية بالوكالة، وبذلك يكون المصير القومي المغربي وهوية الوطن لعبة بيد المتفرنسين المغاربة، تتقوى بها فرنسا والفرنسية كلما أحست بهوان الذات واللغة وافتقاد المزيد من مناطق النفوذ.
 ولعل المغرب اليوم يشكل نموذجا اقتصاديا يتقوى ويتمدد يوما بعد يوم في ذاته وفي إفريقيا الغربية وأوربا والمشرق، هذا التمدد والقوة لا يمكن مواصلتهما بالوكالة اللغوية وإنما باللغة العربية الأصيلة خاصة في ظل المنافسة الفرنسية، ودليل ذلك ما من دولة متقدمة وقوية عرفها التاريخ والعالم بغير لغتها؛ أصالة وابتداء.
إن مسألة الانفتاح على اللغات مدخل أساسي من مداخل التقدم والبحث العلمي، وهو ركن من أركان النظام التربوي المغربي، آمن به المغرب وطبقه في كل المراحل التي قطعها نظامه التربوي، غير أن كيفية ذلك مازالت مساحة للتفكير والنقاش العلميين لا مساحة للقرارات السياسية والإيديولوجية، ولعل أحسن ما يمكن تقديمه لهذا الوطن في هذا النزال اللغوي، أن تتجرأ الحكومة وتعلن قرارا سياسيا مفاده إخضاع لغة التدريس لاستفتاء شعبي نهائي يقرر فيه أبناؤه اختيارهم اللغوي التربوي، إجراء تربوي ديمقراطي ستكون فوائده حميدة وعوائده نفيسة، والمغاربة واعون أيما وعي بأنهم مدعوون لتصحيح اختياراتهم التربوية والبيداغوجية والاجتماعية واللغوية، مدعوون للتوجه للغة العربية؛ باعتبارها آلة تفكيرهم ووعاء ثقافتهم وهويتهم وحضارتهم، ومدعوون لاختيار اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة بحث علمي، وما دون ذلك مما تسعى إليه وزارة التربية الوطنية فمحال استنقاذه، ضَعُف الطالب والمطلوب.

Haut du formulaire


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق